لقراءة الجزء الأول.. اضغط هنا

لقراءة الجزء الثاني.. اضغط هنا

لقراءة الجزء الثالث.. اضغط هنا

الفاطميون والعباسيون وصراع الخلافة

رأى الفاطميون الشيعة الإسماعيلية أنهم الخلفاء الشرعيون للمسلمين، وأنهم ينحدرون من نسل فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب، واعتبروا أن الخلافة العباسية غير شرعية، ونتيجة للخلاف المذهبي، سعى كل خليفة إلى فرض مذهبه على العالم الإسلامي، يأتي ذلك في ظل تحول الخلافة العباسية إلى ” نمر من ورق” يُدان لها بالولاء والدعاء على المنابر فقط، دون قوة فعلية مسيطرة، فكل أراضيها أصبحت ولايات شبه مستقلة.

سوريا بين فكي السلاجقة “إيران” والفاطميين “مصر”

أرسَت الدولة الفاطمية ركائزها في مصر بعد بدء تأسيسها في تونس الحالية، وجعلتها قلب الحكم، وتمكنت من السيطرة على مناطق كبيرة من سوريا الحالية، لتصبح جزءًا من إمبراطوريتها، حتى جاء القرن الحادي عشر، حيث ظهرت على الساحة الدولة السلجوقية في إيران وكانت قوة عسكرية ضاربة ساعدت الخلافة العباسية في التخلص من البويهيين الشيعة الذين سيطروا الخلافة، وحين قويت شوكتهم بدأوا في التوسع غربا تجاه سوريا، ليحدث الصدام مع الفاطميين.
وخلال القرن الـ11 تأرجحت سوريا بين سيطرة ونفوذ الدولة الفاطمية -مصر- من الجنوب، والدولة السلجوقية في إيران والتي توسعت وضمت أراضي في العراق ليحدث التصادم بينهما في الشام، الذي أدي لتغيير موازين القوى، حيث سيطر السلاجقة على أجزاء واسعة لتصبح حلب ودمشق أرجوحة بين قوتيهما، وترتب على ذلك ضعف الدولتين، فاستغل ملوك أوروبا ذلك في تأسيس إمارات صليبية في المشرق، وبالفعل نجحت الحملة الصليبية الأولى 1096-1099م، وتمكّن الصليبيون من تأسيس أربع إمارات رئيسة، إمارة أنطاكية، والرها، وطرابلس، وبيت المقدس وتشمل عكا وصور وفلسطين الحالية.

سوريا في العصر الزنكي والأيوبي والمغولي

جاء القرن الثاني عشر  تمكن فيه عماد الدين زنكي والي الموصل التابع للدولة العباسية، من تأسيس دولة قوية من العراق حتى شمال الشام، وعاصمتها حلب، ليأتي بعده أقوى حكامها نور الدين زنكي، الذي طلب منه شاور أحد المتصارعين على الحكم في الدولة الفاطمية في مصر ، المساعدة ضد خصمه، فأرسل له قائده أسد الدين شيركوه مع ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي بجيش عام 1164م، وبعد فوزه، خشي شاور من نفوذهم فتحالف مع الصليبيين، فقرر صلاح الدين التخلص مع الحكم الفاطمي ليؤسس حكمه “الدولة الأيوبية”.
استغل صلاح الدين، انهيار الدولة الزنكية بعد وفاة نور الدين، وتمكَّن من محاربة بقاياها و السيطرة على أجزا ء كبيرة من الشام مثل دمشق وحلب، بينما بقيت المدن الساحلية في حوزة القوات الصليبية، وبعد وفاته دبّ الضعف تدريجيًا في الدولة الأيوبية، وانقسمت إلى دويلات متحاربة. في مصر  استقل المماليك بالحكم عقب  وفاة  الصالح نجم الدين أيوب حوالي 1250م، بينما في سوريا تراجعت دولتهم وتحولت إلى إمارات صغيرة في دمشق وحلب تحت حكم أخر حكامها الناصر يوسف، الذي لم يتمكن من تقديم دعم لبغداد مقر الخلافة العباسية حين اجتاحها المغول حوالي 1258م، حتى سقوط دولته تمامًا بعد اجتياح المغول للشام.

أعمدة المشرق وتغير المسميات

طوى التاريخ صفحة أخرى من صفحاته بعد انتهاء حكم الأيوبيين الذي استمر حوالي 79 عامًا، فاختفت الدولة السلجوقية من الساحة لتحل محلها الخوارزمية، كما اختفى الفاطميون ليحل محلهم الأيوبيين ليختفيا أيضا ويحل محلهما قوى جديدة بأسماء جديدة وتظل مراكز وأعمدة القوى في المشرق تنحصر في إيران ومصر وتركيا وتقبع سوريا حبيسة الصراعات بينهما.

سوريا بين مصر المملوكية وتركيا العثمانية وإيران الصفوية

سيطر المماليك على مصر ودخلوا في مواجهة مباشرة مع المغول بعد إسقاطهم بغداد والشام، وتمكنوا في معركة عين جالوت -1260م- من هزيمة مؤخرة جيشهم الذي يقدر بـ20 ألف جندي والذي بقي في الشام، بعد انسحاب قوام الجيش الرئيس والذي تشير بعض التقديرات الحديثة لحوالي 150 ألف جندي، بسبب حرب أهلية على الحكم بعد وفاة إمبراطورهم الخان الأعظم. انتصار المماليك مهد للسيطرة على الشام وتعزيز قوتهم، بعد انسحاب القوة الضاربة من الجش المغولي، وانشغالهم في الحرب الأهلية الدائرة بينهم.

تمكن المماليك من تشكيل قوة عسكرية ضاربة، في توقيت انقسمت فيها الإمبراطورية المغولية لـ4 ممالك كبرى، أبرزها الدولة الإلخانية بقيادة هولاكو في فارس والعراق وأجزاء من الشام ،والتي دخلت عدة معارك مع المماليك، ولكن توازن القوى حَال دون هزيمتهم، خاصة في ظل تحالفهم مع القبيلة الذهبية وهي أهم أفرع الممالك المغولية المنقسمة خاصة بعد دخولها الإسلام، كما حال دون مقدرة المماليك على استعادة الخلافة في بغداد من أيدي المغول.
ومع مرور الوقت ضعفت الإلخانية وتصارع الورثة على الحكم، حتى ظهر تيمورلنك الذي تمكن من تأسيس إمبراطوريته الجديدة وضم أراضي بالهند وفارس والعراق حتى وصل الأناضول وهزم العثمانيين، كما هزم المماليك في الشام وسيطر على حلب ودمشق، كان شرسًا، لم يتمكن ملك من الوقوف أمامه، لولا الصراعات الداخلية على الحكم وانقسام وتفتت مملكته، لتغير وجه العالم حتى الآن.

تنامت قوى أخرى على الساحة الإقليمية، مثل الدولة الصفوية الشيعية الأثني عشرية في إيران، والعثمانية السنية في الأناضول “تركيا”، والتي تمكنت من دخول القسطنطينية حوالي 1453م وإسقاط الإمبراطورية الرومانية الشرقية بعد ألف عام من صمودها، وبدأوا التوسع شرقًا في أسيا وشمالًا  في أوروبا وجنوبًا تجاه سوريا.

بينما ظل المماليك على قاعدتهم “الحكم لمن غلب”، الأمر الذي أدى لضعف قوتهم تدريجيًا، لم يهتموا بالتحديث العسكري وموكبة تطور الأسلحة، واقتصاديًا، كان اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح حوالي 1488 م، كارثة بكل المقاييس على الاقتصاد المبنى على  رسوم التجارة القادمة من الشرق نحو الغرب، فتحولت تدريجيًا إلى الطريق البحري حول أفريقيا.  28 عامًا كانت كفيلة بتدمير اقتصاد مصر، لتصبح لقمة سائغة أمام العثمانيين في معركة مرج دابق 1516، وبعيدا عن سيناريوهات الخيانة من والي حلب خاير بيك، فكانت عوامل الانهيار  والضعف رسمت ملامح المماليك قبلها بعقود.

سقوط الأندلس

العلاقة بين المماليك والعثمانيين عدائية، نشبت عنها عدة حروب ومناوشات شمال سوريا لإيقاف التوسع العثماني، الأمر الذى ألقى بظلاله على انهيار الدولة الإسلامية في إسبانيا. استنجد محمد الثاني عشر أخر حكام بنى الأحمر في غرناطة بالدول الإسلامية الكبرى، سلاطين المماليك في مصر بقيادة السلطان قايتباي، والدولة العثمانية بقيادة السلطان بايزيد الثاني، طالبًا المساعدة العسكرية لإنقاذه من السقوط وفك حصار ملوك إسبانيا بقيادة فرناندو الثاني وإيزابيلا الأولى، لم يلبًّيا ندائه فسقطت غرناطة حوالي 1492 م.
خشي الطرفان المماليك والعثمانيين من إرسال جيوش لإسبانيا، لشك كل منهما في الأخر، في مهاجمته حال ضعفت جبهته العسكرية.

قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح.. أخطاء قنصوه الغوري

تقلد قنصوة الغوري أخر سلاطين المماليك الحكم، ورفض طلب سليم الأول سلطان العثمانيين في مساعدته خلال حربه ضد الصفويين، لاشتراكهما في العداء للشيعة، بل الآنكى أن ولايات بشمال سوريا تابعه له ناوشت مؤخرة جيش سليم الأول، الأمر الذي حوله لعدو  ويتخذ قرارا مصيريا بضرورة محاربه المماليك واحتلال مصر.

تجاهل مصر لقوة “العثمانيين والصفويين” كان خطأ استراتيجي دفعت ثمنه غاليًا، فالسياقات التاريخية المتكررة تؤكد أن عقلية حاكم كفيلة بصعود دولة أو انهيارها. وهنا الغوري السني كان ضد شاه إيران الشيعي، وناصب العداء أيضًا لسليم الأول، فكانتا قوتين عظيمتين، ولكنه لم يتمتع بالفطنة ليعرف أن عدو عدوه هو صديق، فتحالف مؤقت كان كفيًلا لتغير مجرى الأحداث حتى اليوم.

استراتيجية الحياد النسبي وترك القوتين تتصارعان مع بعضهما لاستنزاف قوتهما، كانت الأقرب إلى الصحة، حال سعى الغوري لتعزيز قواته ودفاعاته، استعدادًا لسيناريو أسواء حال انتصر أيًا من الطرفين نصرًا حاسمًا، فلن يبقي إلا هو في المواجهة، إلا أن الواقع كشف خطأ تفكيره.
خلال الحروب والمناوشات السابقة مع العثمانيين تمكن المماليك من هزيمتهم في جميعها، فتيبست عقيلة الغوري عند ذلك الزمن معتمدًا على قوة فرسانه “الكوماندوز”، فعاش في  مخيًّلة انتصارات المماليك السابقة، عسكريًا لم يطور جيشه، اقتصاديًا بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح تدمر الاقتصاد المصري، واستراتيجيًا، لم يخطط جيدا، اختار أسوأ سيناريو يمكن اتخاذه، فلم يتحالف مع العثمانيين، ولم يحافظ على الحياد أيضًا، بل استفز هم وأضعف موقفه وحَولهم  لأعداء.

السيف والسياسة.. غياب الرؤية الاستراتيجية ونهاية المماليك

في نظرية توازن القوى، كان الثلاثة الكبار في المسرح الدولي الصفيون والعثمانيون والمماليك الذين كانوا في أضعف حالاتهم الاقتصادية والعسكرية،  وعلى حدود شمال وشرق سوريا، وقعت اشتباكات عدة بين المماليك والصفوين والعثمانيين. فالثلاثة أعداء.
أخطا الغوري حين حاول تجنب دعم أي طرف ضد الآخر للحفاظ على موقعه كقوة مستقلة، ولكنه حوّل العثمانيين لعدو بالمناوشات التي حدثت لمؤخره جيشهم، هنا لو منع هذه المناوشات أو قدم دعمًا رمزيًا لسليم الأول لكان حافظ على بلاده  كقوة إقليمية في توقيت حرج.

يتصرف القادة بناءً على المصلحة القومية وليس الأيديولوجيا أو الولاءات الدينية أو القومية، بحسب نظرية  الواقعية السياسية، وهنا تعامل الغوري مع الصفويين والعثمانيين بمنطلق الصراع التقليدي، ولكنه لم يدرك أيّا منهما أكثر خطرًا ، ولم يتعامل بمرونة، والكارثة لم يُحدًث حتى جيشه،  ولم يقم بتجهيز سوريا عسكريًا، بل تركها بنفس قواتها معتمدًا على قوته المُتخَيّلة فكان الأولى به أن يتبع استراتجية “الحياد المسلح”.

سقوط سوريا ومصر

تمكن العثمانيون عام 1516م، من السيطرة على سوريا بعد معركة مرج دابق، لتصبح جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، ثم هزموا المماليك في مصر بعد معركة الريدانية 1517م ليسقط حكم المماليك، وتصبح مصر ولاية لهم أيضًا، وأجبروا أخر خليفة عباسي علي التنازل عن الخلافة لهم، لتصبح السلطنة باسم “الخلافة العثمانية” ليستمر الوضع كذلك حوالي 400 عام، حتى سقوطها رسميًا عام 1924.

وللحديث بقية..

 

 

زيارة مصدر الخبر