– الروائى الفائز بـ«البوكر»: الفلسطينيون لا يهتمون بتصريحات ترامب.. ويصرون على الحرية- أنا كاتب مقلٌ جدًا.. لأننى لا أحب أن أكرر نفسى- اشتريت روايتى المزورة من سور الأزبكية بربع الثمن- عملى الصحفى ساعدنى على صناعة مشهدية قوية فى رواياتىقال الروائى الكبير ربعى المدهون، إن معرض القاهرة الدولى للكتاب يعتبر من أهم المعارض العربية، إن لم يكن أهمها، ويتميز بأنه يحقق مفهوم السياحة الثقافية، لأنه يجذب الكتاب والقراء من كل مكان فى العالم، لزيارة مصر الحبيبة، لافتًا إلى أن معرض القاهرة ليس مجرد معرض لـ«البيزنس»، مثل معرضى فرانكفورت ولندن. وأضاف «المدهون»، فى حوار مع «الدستور»، أنه لم ينشر منذ فوزه بجائزة البوكر عن روايته «مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة» عام ٢٠١٦، لأنه مقل فى النشر، مشيرًا إلى أنه ينوى طباعة أعماله جميعًا فى مصر، إن أمكن، حرصًا على تسويقها وتوفيرها بسعر مناسب للجمهور المصرى.وأكد أن الشعب الفلسطينى سيظل صامدًا، ولن يلتفت إلى تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مشددًا على أن تكاتف أبناء فلسطين قادر على إجبار البيت الأبيض على تغيير سياساته.■ بداية.. ما رأيك فى معرض القاهرة الدولى للكتاب؟- معرض القاهرة الدولى للكتاب واحد من أهم- إن لم يكن أهم- المعارض العربية التى أحرص على زيارتها كل عام، ويرجع هذا إلى مكانة القاهرة ومركزيتها بين العواصم العربية الأخرى وحتى على المستوى العالمى بالنسبة لى شخصيًا.أنا على علاقة بمصر وعاصمتها منذ أكثر من ٦ عقود، وأنا أحب مصر وأحب أهلها، ولى أصدقاء وقراء وعلاقاتنا ممتازة.معرض القاهرة للكتاب يأتيه الزوار ليس فقط لشراء الكتاب، وإنما لمقابلة الأصدقاء وزيارة مصر الحبيبة ورؤية كل ما هو طيب وجميل فى القاهرة، وأراه مكانًا مناسبًا لتجديد العلاقات، وهو ليس فقط مركزًا لبيع الكتب، ولكنه يمكن أن نعتبره داعمًا للسياحة الثقافية.■ زرت معرضى لندن وفرانكفورت.. كيف ترى مكانة معرض القاهرة فى العالم؟- هناك اختلاف، ففى المعارض الأخرى مثل فرانكفورت ولندن وحتى نيويورك، الاهتمام يكون بـ«البزنس»، أى علاقات الناشرين بالكتاب، لذا هى مختلفة تمامًا عن معارضنا فى الشرق الأوسط.■ نشرت طبعات مصرية من كتبك.. لكنك اخترت نشر كتابك «طعم الفراق.. ثلاثة أجيال فلسطينية فى ذاكرة» فى مصر لأول مرة.. لماذا؟- السبب يعود لغلاء أسعار الكتب المطبوعة خارج مصر، لأن دور النشر العربية، وخصوصًا اللبنانية والسورية سابقًا والأردنية وعموم دور النشر الأخرى التى تتعامل بالدولار تضع أسعارًا عالية للكتاب، لذا رأيت أن تسويق الكتاب فى مصر بعد طباعته فى الخارج سيخلق أزمة للمواطن الذى يريد اقتناء الكتاب، وليست لديه القدرة على شرائه.أذكر أن روايتى «مصائر» كانت تباع قبل خمس سنوات بـ٨٠ جنيهًا مصريًا، وكان وقتها مبلغًا كبيرًا للمواطن المصرى وقوة الشراء ضعيفة وهذا شجع التزوير، وأنا اشتريت وقتها روايتى بعشرين جنيهًا من سور الأزبكية، أى أننى اشتريتها مزورة على سبيل الدعابة، وأخذتها للناشر وقلت له «أنظر هذه الطبعة».الفكرة كانت المسافة بين العشرين والثمانين، والمواطن لن يهمه إن كانت مزورة أو أصلية طالما أنه يريد قراءة الرواية، فأتذكر أننى أول شخص بدأت هذه الفكرة، وبدأتها مع دار «تنمية» أول مرة، وثانيًا مع «مدبولى» وطرحت طبعات مصرية من رواياتى، والطبعة المصرية بالتأكيد كان سعرها نصف الطبعة المطبوعة فى بلادها، فهذه الفكرة الأساسية فى الطبع فى مصر.الأمر الآخر هو أنه ليس كل ما يطبع فى الخارج يلقى ترويجًا وتوزيعًا مناسبًا فى مصر، فكتابى «طعم الفراق» طبع فى ٢٠٠١، وطبع عام ٢٠١٠، والطبعة التى تصدر عن «كيان» للنشر هى الطبعة الثالثة. وكان هناك اختلاف فى التوزيع.الفكرة أننى أريد طباعة الكتاب فى مصر، وليس هنا القصد أن يظهر فى المعرض لعام أو عامين، الفكرة أن يتوسع توزيعه فى مصر وبسعر معقول ليستطيع القارئ اقتناءه.الأمر الأخير والأهم فى رأيى هو العلاقة الفلسطينية المصرية، خصوصًا فى ظل الظروف التى نعيشها الآن، وحرب الإبادة التى شهدناها فى غزة، والكتاب يتدخل فى صلب العلاقة أيضًا بين فلسطين ومصر، لأن جزءًا من الكتاب يرصد تقدم الجيش المصرى عام ١٩٤٨ بالأسماء والتفاصيل الكاملة، فيؤرخ للمرحلة بشكل دقيق جدًا، غير متوفر فى مكان آخر، لهذا فأنا أعده وثيقة، بالأخذ من المصادر الحقيقية والأساسية ووضعها فى سياقها الجغرافى والتاريخى والحياتى لمن استقبلوا الجيش المصرى عندما نزل فى مجدل عسقلان مسقط رأسى أنا، وما الذى جرى منذ ذلك الحين وذهبوا إلى الفالوجة، ثم حوصروا فى الفالوجة.وهناك علاقة أخرى لا تقل أهمية، وهى حرب عام ١٩٥٦، فمنذ عام ٤٨ وحتى عام ١٩٥٦ كانت غزة تحت حكم الإدارة المصرية، وكان هناك حكم عسكرى، وكان لدينا حاكم مصرى عام لقطاع غزة وحكام مصريون فى المدن الأخرى، وعندما وقعت حرب ١٩٥٦ كانت هناك مذبحة كبيرة فى خان يونس، تشبه ما نشهده هذه الأيام، فى هذه الحرب قتل أكثر من ٢٥٠ شخصًا، أغلبهم قتلوا على الجدران.. جمعوا الشباب من سن ١٤ عامًا إلى سن خمسين عامًا تقريبًا وراحوا يصفونهم بمحاذاة الجدران ويطلقون الرصاص عليهم من المسافة صفر، فى حارتنا تحديدًا تمت إعدامات هائلة وكنت فى الحادية عشرة من عمرى.أنا الوحيد الذى وثق دقيقة بدقيقة لهذه الحرب وللمذبحة منذ دخول القوات الإسرائيلية لخان يونس وحتى خروجهم فى ٧ مارس ١٩٥٧ بعد احتلال أربعة أشهر، وهذه وثيقة مهمة مع مصر، ولهذا فالكتاب مرتبط مع مصر فى أكثر من جانب.. ومرتبط بى شخصيًا لأننى عشت حرب ٦٧ والنكسة، وكنت فى القاهرة وقتها، وأيضًا وثقت للهزيمة من وجهة نظرى وكيف عشتها أنا، كما يقال كشاهد عيان، هذا ما يمنح الكتاب أهمية أخرى لأن يكون مقروءًا فى مصر وحقيقة يجب أن يقرأ فى مصر.■ كيف استفدت من عملك الصحفى فى كتاباتك؟- كنت أمارس عملى الصحفى مثل أى صحفى، ما بين التحليل والرأى والتغطية الصحفية والريبورتاج، وكل ما أستطيع قوله إننى استفدت من إمكانات الصحافة واستفدت من تقنياتها بتعبير أدق، ومن خبرتى من عملى بالتليفزيون، لأننى عملت «بروديوسر» لـ٦ سنوات فى الوكالة العالمية للأنباء المصورة، وأيضًا علمتنى تقطيع الصور ومونتاجها وخبرات التغطيات الصحفية والتصوير والعلاقة مع الكاميرا، وهذا منحنى معرفة بالمشهدية، ولذلك سيلاحظ القارئ لروايتى «مصائر»، أو روايتى «السيدة من تل أبيب» أو «طعم الفراق» المشاهد مصورة بدقة، ما يعكس روائح المناطق وتفاصيل هذه المناطق.فى مشاهد رواية «مصائر»، يدخل القارئ إلى أسواق القدس القديمة ويشم رائحة التوابل ورائحة التاريخ، ويتعرف على التفاصيل ونكهة ورائحة الزعتر والريحان والبابونج والخضار الذى تبيعه نسوة فلاحات يجلسن على الأرض فى خان الزيت على سبيل المثال.. هذه المشاهد تأخذ شكلًا تصويريًا تمامًا كأنك تشاهد فيلمًا سينمائيًا عن المنطقة، وفى نفس الوقت التقنية تجعل القارئ نفسه وكأنه هو الذى يمشى فى هذه الشوارع ويرى ويدقق فى التفاصيل ويحفظها، هذا جزء مما استفدته من خلفيتى الصحفية.■ منذ فوزك بجائزة البوكر لم تنشر أى رواية.. لماذا؟- صحيح أننى لم أنشر أى عمل روائى، لكننى معروف أننى مقل فى النشر؛ على سبيل المثال أصدرت أول مجموعة قصصية عام ١٩٧٧، ولم أكتب أى قصة قصيرة بعدها إلا بعد مرور ١٥ عامًا، وكتبت قصتين فى لندن ولم أكمل مجموعة، وانتهت بالنسبة لى مسالة القصة القصيرة، ولهذا أسباب كثيرة، ربما لانغماسى فى الصحافة، فكنت أكتب لكبريات الصحف العربية، ولكننى بشكل عام مقل جدًا. وهناك أسباب أكثر جوهرية من هذا السبب؛ فمن عادتى أن أكرر بعض المقولات، منها أننى لا أحب جملة تكررت ولا تقنية استخدمت بصورتها نفسها، فلا بد من التجديد.. لا أحب أن أكتب سردًا قريبًا من سرد، وأسعى ما أمكننى أن أكتب بأسلوب «المدهون»، بحيث من يفتح الكتاب ويقرأ يعرف أن هذا هو أنا.أنا أحرص على هذه المسألة، وأحرص على خلق تقنيتى الخاصة، والأهم من كل ذلك أن أقدم جديدًا، فمثلًا أنا أتعاطى مع القضية الفلسطينية، وربما أكون الروائى الوحيد الذى شملها من كل جوانبها، وما زلت أقدم المزيد من التفاصيل، وما أحلم به هو تقديم المزيد مما جرى فى غزة مؤخرًا، وهذا سبب آخر للتعطيل.كنت أنوى أن أزور غزة، وحدث أن قدمت طلبًا لزيارة القطاع، ولم أتمكن من الحصول على التصريح، وانتظرت حتى الثانى من أكتوبر وتأجل، واضطررت للسفر وتركته وسافرت يوم ٣ أكتوبر، وفى ٧ أكتوبر بدأت الحرب، وشغلتنى الفكرة من جديد، وأوقفت ما أكتب لكى أستوعب ما الذى سيحدث لو أن بطل روايتى الجديدة «وليد دهمان» كان فى غزة وشهد هذه الحرب، بمعنى آخر دائمًا أبحث عما هو جديد ويضيف للرواية الفلسطينية، لأننى لا أؤمن بترتيب الكتب وصفها.. هناك كتاب قادرون ولهم أعمال عظيمة، أما أنا فمقل فى إنتاجى لأننى أكتب رواية أستطيع تقديمها بشكل يليق بمسارى الروائى.■ ما رأيك فيما قاله الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن التهجير وتفريغ الأرض من أبنائها.. ورد مصر عليه؟- ترامب يتعامل مع كل شىء من منطق «البيزنس»، أما الشعب الفلسطينى فيحاول تحرير أرضه ويقاوم فى سبيل ذلك، وهو غير معنى بكلام الرئيس الأمريكى.الوضع شديد التعقيد، وقد يتطور الأمر إلى توغل أمريكى، ووقاحة، واستخدام كل الوسائل الممكنة لقهر الشعب الفلسطينى، لكننى أعتقد من جانب آخر أن هناك تجربة مختلفة لدى الشعب الفلسطينى، فهو شعب عنيد وصبور.. الغزاوى لو ضربت رأسه فى الحائط لن تقنعه بما لا يحب الاقتناع به. الشعب الفلسطينى مقتنع ببقائه فى أرضه، هناك مخاطر كبيرة واحتمالات التهجير موجودة واحتمالات القتل موجودة واحتمالات تدمير القضية موجودة، ولكن ما يمكن المراهنة عليه هو هذا الشعب الذى لا يعرف تراجعًا أو تخاذلًا، ومؤمن بقضيته.. مشكلة شعبنا فى قواه السياسية، ومشكلة شعبنا فى استمرار الانفصال والفرقة بين منظماته الرئيسية.الحل هو إعادة التوحيد والاتفاق على برنامج واحد، إذا ما تلاقى مع إرادة هذا الشعب سيكون هذا هو المدخل الحقيقى لوأد أى مشاريع عدائية.. هذا إن حدث سيضطر ترامب أو غير ترامب إلى تبديل سياساته، على الأقل لا نكون خسرنا كل شىء وإنما نخسر بشكل نسبى ونحافظ على الأرض وعلى من تبقى من أبناء شعبنا.
ثقافة, جريدة الدستور
29 يناير، 2025