دخول دونالد ترامب إلى عالم السياسة في الولايات المتحدة، من بوابة البيت الأبيض مباشرة، كان أمرا جلل في السياسة الأمريكية، فالرجل لم يخطو خطوات كثيرة، للانتقال من عالم الأعمال والاقتصاد إلى عرش الرئيس، فانتقل مباشرة، على حساب سياسية مخضرمة، وهي هيلاري كلينتون، التي خاضت العديد من المنافسات الانتخابية، سواء بنفسها، أو في مساندة زوجها، والذي تولى الرئاسة لفترتين متتاليتين، في مرحلة حساسة في تاريخ واشنطن والعالم، حيث جاء خلفا لجورج بوش الأب، والذي شهد انتصار أمريكا على الغريم السوفيتي، ليعلن الانتصار في الحرب الباردة، وانطلاق حقبة الهيمنة الأحادية، في الوقت الذي لم يشهد فيه عالم السياسة في “بلاد العم سام” تغييرا يذكر، فاحتفظ الحزبين الرئيسيين بهيمنتهما على الكونجرس والقصر، يتبادلان فيهما المقاعد، دون مساحة لأي حزب آخر يمكنه مزاحمتهما.
ولعل محدودية الحالة الحزبية، في الولايات المتحدة، تتعارض في جوهرها مع ما نادت به من تعددية، في إطار الديمقراطية، إلا أنها تمكنت من ترويج صورة مغايرة للواقع، عبر تناوب الوجوه، بين الجمهوريين والديمقراطيين في البيت الأبيض تارة، وتبادل الأغلبية والأقلية بين الحزبين، مع كل انتخابات للتجديد النصفي، والتي تجرى كل عامين، تارة أخرى، ليجد الرئيس الأمريكي فرصته السانحة لاعتلاء العرش مباشرة، من هشاشة الجذور الديمقراطية لبلاده، فكان خطابه هجوميا، على خصومه بقدر ما كان على الحزب الذي يمثله، لتجد القاعدة العريضة في حديثه ملاذا نحو تغيير منشود، من شأنه استعادة مكانة أمريكا ومواطنيها، ليس على خريطة العالم، ولكن في الداخل، في ظل تحديات كبيرة، تتراوح بين التضخم والبطالة، والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، والتي بلغت ذروتها بين عامي 2007 و2008، بفعل الأزمة المالية العالمية.
صعود ترامب إلى عرش البيت الأبيض، كان نتيجة رؤية شخصية وليس ثمرة دعم حزبي، وهو ما ترجمه عزوف جمهوريين بارزين عن تأييده خلال 3 مناسبات متتالية، رغم أنه خاض المنافسة ممثلا لهم، للاحتفاظ بما تبقى لهم من إرث في إطار المؤسسة، لكنه انتصر في نهاية المطاف مرتين، مما عكس توق المواطن إلى شخصية شعبوية، قد تؤدي في نهاية المطاف إلى كيان يدعم مطالبهم، في صورة “حزب ثالث”.
ارتباط ترامب بـ”الحزب الثالث”، تزايد رغم سقوطه أمام جو بايدن في انتخابات الرئاسة في 2020، مع حديث تناثر حول إمكانية قيامه بتأسيس حزب جديد يخوض الانتخابات في 2024، وربما عززه احتدام الخلاف بينه وبين أقطاب الجمهوريين، ومن بينهم من خدموا معه في ولايته الأولى، على غرار نائب الرئيس السابق مايك بنس، الذي رفض الاستجابة لمطلبه، فيما يتعلق بالإعلان عن فوز بايدن في يناير 2021، وما ترتب على ذلك من خروج آلاف المؤيدين للاحتجاج أمام الكونجرس واقتحامه في مشهد، اعتبره البعض بمثابة “شهادة وفاة” الديمقراطية الأمريكية، أو على الأقل بداية احتضارها، والخلاف المحتدم مع السيناتور الجمهوري البارز جون ماكين، والذي لم ينته بوفاة الأخير، بل استمر مع الورثة، في إطار إهانات متبادلة، مما دفع قطاع كبيرة من المتابعين سواء في أمريكا أو خارجها، إلى بناء سيناريوهات تقوم على إمكانية تأسيس حزب ثالث، بل وتجاوز الأمر ذلك بالحديث عن الاسم المتوقع للحزب الجديد.
إلا أن الرجل آثر الاعتماد على نفس الآلية في 2024، ليخوض الانتخابات مجددا عن الحزب الجمهوري، بلغة خطابية خارجة عن تقاليده المؤسساتية، يحمل هجوما على الجميع، ليفوز مرة أخرى بالعرش الأمريكي.. ولكن يبقى التساؤل حول ما إذا كان الرئيس الأمريكي أضاع فرصة تاريخية للخروج من نمطية الثنائية الحزبية، نحو بناء حزب ثالث، ليقدم فرصة نادرة لخصم جديد يمكنه البناء عليها، وهنا أقصد إيلون ماسك، الذي يحمل العديد من المقاربات مع ترامب، وأبرزها غياب الخلفية السياسية، واستعانته بالخطاب الشعبوي، حتى أنه كان أحد أبرز داعمي الرئيس، قبل خلافاتهما الأخيرة، والتي تفتح الباب أمام رجل الأعمال البارز، للبناء على الأسس التي سبق وأن أرساها صديقه اللدود.
يبدو أن الرئيس ترامب، ذو الخلفية الرأسمالية التقليدية، رفض المقامرة بتأسيس حزب جديد، قبل خوض المعترك الانتخابي، خوفا من شعبية الحزبين الرئيسيين، حيث آثر الانطلاق من شعبية الحزب الجمهوري، خاصة بعد ترنح إدارة بايدن في العديد من الملفات، وهو الطريق الأسهل انتخابيا، من وجهة نظره، خاصة وأن المواجهة كانت مع نائبة الرئيس في الإدارة المنتهية ولايتها آنذاك، كامالا هاريس، وبالتالي فيبقى الأمر أسهل، ولا يحتاج أن يخوض الاتجاه الأصعب، إلا أن ظهور ماسك، وهو صاحب الرؤية الرأسمالية التكنولوجية، والتحول في العلاقة بينهما من التحالف إلى الخصومة، بات يفرض تحديات جديدة ليس على الإدارة الحالية، وإنما في شكل السياسة الأمريكية ككل
خلافات ترامب وماسك، ليست مجرد خلافا تقليديا بين الرئيس والمسؤول، وإنما تعكس حالة من التآكل الشعبوي، في ضوء الانقسام بين حالتين، أحدهما شعبوية خارجة عن الإطار المؤسسي، ويمثلها الأخير، والأخرى تسعى للالتزام بقدر ما من المؤسساتية، في ضوء المسؤولية الملقاه على عاتق ترامب باعتباره رئيسا للبلاد.
وهكذا تقف واشنطن على أعتاب مخاض سياسي جديد، قد يفضي إلى ميلاد حزب ثالث حقيقي، لا يشبه تلك التكوينات الكارتونية التي لم تتجاوز تمثيلًا رمزيًا في صناديق الاقتراع، بل يعبر عن تيار شعبي واسع، يخرج من الهامش غير المسيّس ليصنع مركزًا جديدًا في الحياة السياسية الأمريكية.
الحاجة إلى “الحزب الثالث” في الولايات المتحدة، تتجلى بوضوح في تجارب الدول الأخرى، والتي تتمتع أساسا بالتعددية الحزبية بمفهومها الواسع، في ضوء قيام بعض الساسة ببناء أحزاب جديدة وخلع عباءة أحزابهم القديمة، طمعا في إرضاء قاعدة عريضة من الجمهور باتت تشعر بالإحباط من السياسة النمطية للأحزاب التقليدية، وهو ما يبدو في في نموذج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي وجد مكانه على قمة السلطة من رحم حزب جديد أسسه، قبل خوضه الانتخابات الرئاسية في 2017 بشهور قليلة، تحت اسم “الجمهورية إلى الأمام”، حيث راهن في واقع الأمر على حالة الامتعاض السياسي من الأحزاب التقليدية، والتي باتت واضحه في فشل أسلافه (نيكولا ساركوزي وفرنسوا أولاند) في الحصول على أكثر من فترة رئاسية واحدة، ناهيك عن التظاهرات والإضرابات جراء عدم القدرة على تحقيق اختراقات كبيرة في العديد من الملفات، وفي القلب منها الملف الاقتصادي.
وهنا يمكننا القول بأن خلافات ترامب – ماسك، تتجاوز الأمور الشخصية، بينما تمثل صراعا بين معسكرين كلاهما شعبوي، أحدهما رأسمالي تقليدي، والآخر يعتمد التكنولوجيا، كما أنه يحمل في طياته إرهاصات مرحلة جديدة، قد تتماهى مع طبيعة سياسية جديدة سواء في الداخل أو حتى على المستوى الدولي، يميل نحو قدر من التعددية، خاصة مع تراجع الثقة الدولية في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وهو ما يرجع في جزء كبير منه إلى التغيير المحدود في السياسات، رغم اختلاف خلفية الإدارات، بسبب التعددية الحزبية المحدودة، فلم يعد الحلفاء أو الخصوم ينتظرون تغييرا كبيرا في السلوك الأمريكي، حتى في حال تغير الإدارة أو تغير الحزب الحاكم، نظرا لحالة التعددية المحدودة في الأحزاب الأمريكية، وهو ما يفرض معطيات جديدة على السياسة الأمريكية.