فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣، خرج إلى الشوارع والميادين أكثر من ٣٥ مليون مصرى، يهتفون فى صوت واحد ضد الفاشية الدينية، وضد عصابة الإخوان التى قررت أن تختطف مصر بعيدًا عن كل أبنائها. وفى ٣ يوليو، خرج ما يقرب من الـ٤٠ مليون مصرى يؤكدون هتافاتهم ضد الجماعة الإرهابية ورئيسها ومرشدها، ولم يعودوا إلى بيوتهم إلا بعد الإعلان عن خارطة طريق تحدد ملامح المستقبل بعيدًا عن الفشلة والخونة من الإخوان وحلفائهم. وفى ٢٦ يوليو ٢٠١٣، خرج ما يزيد على ٥٠ مليون مصرى إلى كل الشوارع والميادين يلبون نداء الفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع، الذى وقف يحدثهم عن العنف والإرهاب المحتمل، وطلب منهم أن يمنحوه تفويضًا للمواجهة، فنزلوا رافعين أعلام مصر وصور القائد الذى وُلد على يد الأقدار، داعمينه ومساندين له فيما فرضته الأحداث علينا جميعًا. وفى كل مرة أستعيد هذه الأحداث أجدنى أمام أسئلة، أعتقد أن الإجابة عنها ليست سهلة. فمَن يملك هذا الحدث الكبير؟ ومَن يملك الحق فى تسجيل وقائعه؟ ومَن يقدر على أن يفصل بين الخيط الأبيض والخيط الأسود من الثورة؟وفى كل عام، وعندما يهل علينا شهر يونيو، أعيد النظر فى أوراقى التى نشرتها، وتلك التى لم أنشرها بعد، وهى كثيرة، وفيها من الأسرار ما أعتقد أنه لن يكون من السهل علىّ الإفصاح عنها الآن، لكن فى كل الأحوال هناك ما يستحق أن يُروى.ما رأيكم أن نقف سويًا هذه المرة عند الأسرار التى ترقد تحت جلد الأسبوع الأخير قبل قيام الثورة؟أعرف- كما تعرف أنت تمامًا- أن هناك آلاف الحكايات التى وقفت وراء هذه الثورة، الحكايات صنعها أصحابها، وعرفها منهم من يحيطون بهم، وربما كان من حظى أننى اقتربت من كثيرين كانوا على صلة بما حدث، وهو ما كان سببًا فى تراكم القصص فى درج مكتبى. من بين الحكايات الكثيرة التى شكلت الثورة، سأكتب لكم هذه المرة قصصًا أبطالها ما زالوا يعيشون بيننا، وهو تحدٍ أعرف أنه ليس بسيطًا، فما أكتبه سيكون تحت مرآة من شاركوا، ويستطيعون أن يراجعونى فيه إذا أرادوا. وحكايات الثورة ليست للتسلية، ولا لتزجية الوقت. وهى ليست أيضًا لأخذ العظة، ولا العبرة. فلا أنا بالواعظ.. ولا أنتم بالمذنبين. حكايات الثورة هنا نرويها من أجل الفهم، وهو بالنسبة لى القيمة العظمى فى الحياة، فعندما نفهم ما جرى يمكننا أن نبنى عليه، وأعتقد أن هذا ما حدث خلال السنوات التى أعقبت الثورة. مهلة أسبوعًا.. الجيش يحذّر الجميع قبل التدخل صباح ٢٣ يونيو ٢٠١٣، عقدت القوات المسلحة الندوة التثقيفية الخامسة، وهى الندوة التى ألقى فيها السيسى بيانًا واضحًا منح فيه القوى السياسية مهلة أسبوعًا واحدًا لتصل إلى كلمة سواء تتفق فيها على مصلحة الوطن العليا، وإلا فإن الجيش لن يقف مكتوف الأيدى، لأن المؤسسة العسكرية، ومن منطلق إيمانها بدورها التاريخى، لا يمكن أن تسمح للأوضاع العامة بالتردى. البيان الذى ألقاه السيسى كان واضحًا.قال فيه: «القيادة العامة للقوات المسلحة منذ توليها المسئولية فى أغسطس ٢٠١٢، أصرت على أن تبتعد بقواتها عن الشأن السياسى وتفرغت لرفع الكفاءة لأفرادها ومعداتها، وأن ما تم من إنجازات خلال الثمانية عشر شهرًا السابقة يمثل قفزة هائلة». دخل السيسى إلى الأزمة بقوة، قائلًا: «هناك حالة من الانقسام داخل المجتمع، وإن استمرارها خطر على الدولة المصرية، ولا بد من التوافق بين الجميع، لأنه يخطئ مَن يعتقد أن هذه الحالة فى صالح المجتمع، بل تضر به وتهدد الأمن القومى المصرى، ويخطئ من يعتقد أننا فى معزل عن المخاطر التى تهدد الدولة المصرية، ولذلك لن نظل صامتين أمام انزلاق البلاد فى صراع تصعب السيطرة عليه». كان مهمًا ما قاله السيسى عن علاقة المؤسسة العسكرية بالشعب. قال: «أؤكد أن علاقة الجيش والشعب علاقة أزلية، وهى جزء من أدبيات القوات المسلحة تجاه شعب مصر، ويخطئ مَن يعتقد أنه يستطيع بأى حال من الأحوال الالتفاف حول هذه العلاقة أو اختراقها، فإرادة الشعب المصرى هى التى تحكمنا ونرعاها بشرف ونزاهة، ونحن مسئولون مسئولية كاملة عن حمايتها، ولا يمكن أن نسمح بالتعدى على إرادة الشعب، وأنه ليس من المروءة أن نصمت أمام تخويف وترويع أهلنا المصريين». صك السيسى عبارة واضحة سارت منهجًا سرنا عليه جميعًا مع الجيش بعد ذلك، وهى: الموت أشرف لنا من أن يُمس أحد من شعب مصر فى وجود جيشه. أكد السيسى، أيضًا، أن الجيش لن يقبل بالتعدى عليه أو التجاوز فى حقه، بقوله: «إن الشعب المصرى بأكمله هو الحاضن لجيشه، وإن القوات المسلحة لن تظل صامتة بعد الآن تجاه أى إساءة قادمة توجه إليها، وأرجو أن يدرك الجميع مخاطر ذلك على الأمن القومى». وحتى يؤكد هذا المعنى، قال: «الجيش المصرى هو كتلة واحدة صلبة ومتماسكة وعلى قلب رجل واحد يثق فى قيادته وقدرتها، وإنه تجنب خلال الفترة السابقة الدخول فى المعترك السياسى، إلا أن مسئوليته الوطنية والأخلاقية تجاه الشعب تحتم عليه التدخل لمنع انزلاق مصر فى نفق مظلم من الصراع أو الاقتتال الداخلى أو التجريم أو التخوين أو الفتنة الطائفية أو انهيار مؤسسات الدولة». ثم كانت الرسالة الأكبر والأخطر فى تاريخ الثورة المصرية.قال السيسى: «إن القوات المسلحة تدعو الجميع دون أى مزايدات لإيجاد صيغة تفاهم وتوافق ومصالحة حقيقية لحماية مصر وشعبها، ولدينا من الوقت أسبوع يمكن أن يتحقق خلاله الكثير، وهى دعوة متجردة إلا من حب الوطن وحاضره ومستقبله». وشرح الرئيس السيسى ما جرى بعد ذلك: «ونحن فى يوم ٢٣ يونيو قلنا نعطى فرصة بمبادرة وضعناها تتضمن المطالب التى يجمع عليها الناس، وكان سقفها الأعلى هو الاستفتاء على الرئيس، وكنا نتمنى أن يستجيب لها ويعرض نفسه على الاستفتاء، فلو وافق الشعب على بقائه كانت المعارضة قد سكتت». لم تفهم جماعة الإخوان المسلمين هذه الرسالة، أيضًا، رغم أنها كانت واضحة جدًا، حاول البعض أن يصور الأمر على أن السيسى كان يتحدث مع من يريدون الخروج فى ٣٠ يونيو، ومهدت الجماعة لذلك بتصريح منسوب إلى أحد قياداتها يقول إن هذا البيان الذى ألقاه وزير الدفاع كان بالتنسيق مع الرئيس، وإنه كان على علم كامل به. إيحاء الإخوان لم يكن دقيقًا، فقد حاولوا تصوير الأمر على أن السيسى أصدر البيان لصالح الإخوان، والدليل على ذلك أنه نسق مع الرئيس، رغم أن ما حدث، وكما قال السيسى: «قبل أن أصدر بيان مهلة الأيام السبعة أطلعت الرئيس على تفاصيله، وهو لم يغضب من البيان، وإنما كان متحفظًا على رد الفعل». كان السيسى قد صاغ البيان فى فترة الاستراحة خلال الندوة التثقيفية.اجتمع مع قيادات الجيش، وناقش معهم الأوضاع المتردية، واقترحوا جميعًا أن يصدر بيان عن القيادة العامة للقوات المسلحة تؤكد فيه موقفها، وحدث هذا دون أن يقابل السيسى مرسى- كان قد تواصل معه فقط- وهو ما جعل أحد القيادات العسكرية يصرح بأن وزير الدفاع لم يقابل الرئيس خلال هذا اليوم إلا فى الساعة الخامسة مساء، فى إشارة واضحة إلى أنه لم يجر تنسيق كامل بينهما بخصوص البيان، الذى كان صادرًا فى الأساس للإخوان المسلمين، لكن الجماعة فيما يبدو كانت حريصة على التدليس حتى اللحظة الأخيرة، وهو التدليس الذى لم ينفعها فى شىء على الإطلاق. «الإخوان» ترفض بيان الجيش وتصر على التصعيد كان لا بد أن تتحرك جماعة الإخوان بعد إعلان القوات المسلحة منح القوى السياسية جميعها أسبوعًا للتشاور والوصول إلى كلمة سواء. عقدت الجماعة اجتماعًا فى مكتب الإرشاد مساء ٢٣ يونيو، واستقرت فيه على رفضها بيان وزير الدفاع الذى يعرى فيه الرئيس وموقفه، وقررت أيضًا أن ترسل إليه مَن يتحدث معه، ويراجعه فيما قاله، خاصة أن الرئيس عندما قابل وزير الدفاع مساء ٢٣ يونيو، قال له إن البيان بهذه الصيغة يزيد الأمور اشتعالًا، وإن الجماعة ثائرة جدًا وغاضبة منه، لأنه يشجع الرافضين حكم الجماعة على الخروج فى مظاهرات ٣٠ يونيو، لأنهم بذلك يطمئنون إلى أن الجيش معهم. كان السيسى صريحًا فى رده على محمد مرسى، لم يزيّن له الصورة، ولم يقل له كلامًا يريحه والسلام، بل قال مؤكدًا إن القوات المسلحة لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدى أمام المخاطر التى تهدد أمن البلاد، وإن عليه أن يستجيب للمطالب الشعبية، التى قدمها له قيادات الجيش فى اجتماع ٢٢ يونيو، وهى المطالب التى لم يلتفت لها مرسى، بل وعد أن يقوم بدراستها، رغم أن الوقت كان ضيقًا جدًا. السيسى يرفض تهديدات الإخوان: أنتم السبب فى كل هذا الخرابقررت الجماعة أن يذهب سعد الكتاتنى، الذى كان وقتها رئيسًا لحزب الحرية والعدالة، وخيرت الشاطر نائب المرشد العام، للحديث مع السيسى، اتصلا بمدير مكتب وزير الدفاع اللواء عباس كامل صباح ٢٤ يونيو طالبين موعدًا، فحدد لهما موعدًا صباح ٢٥ يونيو. يصف الرئيس السيسى ما حدث فى هذا اللقاء، فى حواره المطول الذى أجراه معه الصحفى الكبير ياسر رزق، يقول: «التقيت بهما واستمعت إليهما، وبلا مبالغة استمر خيرت الشاطر يتحدث لمدة ٢٥ دقيقة، ويتوعد بأعمال إرهابية وأعمال عنف وقتل من جانب جماعات إسلامية لا يستطيع هو ولا جماعة الإخوان السيطرة عليها، موجودة فى سيناء وفى الوادى، وبعضها لا يعرفها جاءت من دول عربية، ثم أخذ الشاطر يشير بإصبعه وكأنه يطلق زناد بندقية». قال الشاطر للسيسى: «إذا ترك الرئيس منصبه فستنطلق هذه الجماعات لتضرب وتقتل، وإن أحدًا لن يقدر على أن يسيطر عليها، وهذا معناه اقتتال شديد جدًا». كان الشاطر يتحدث- كما وصف السيسى- تحت ضغط شديد، قال إن هناك أناسًا أفشلوا الرئيس، وإن مواقف القوات المسلحة زادت التوتر ضدهم، وأفقدتهم السيطرة على قواعد جماعات الإخوان وعلى كل التيارات الإسلامية الأخرى الموجودة، والتى تمتلك أسلحة جاءت من ليبيا وعبر الحدود. استفز كلام الشاطر عبدالفتاح السيسى بشكل غير مسبوق فى حياته، لأنه كان يعبر عن شكل من أشكال الاستعلاء والتجبر فى الأرض، ما جعل السيسى ينفجر فيه، قائلًا له: «أنتم عايزين إيه.. أنتم خربتم البلد.. وأسأتم للدين، أنتم عايزين يا تحكمونا يا تموتونا». صمت خيرت الشاطر تمامًا بعد أن وجد غضب السيسى ينفجر فى وجهه، ويعلق وزير الدفاع على ذلك بقوله: «أظنه أدرك رد الفعل من جانبنا». سأل سعد الكتاتنى، الذى كان صامتا من بداية الحوار: وما الحل؟ رد عليه السيسى بقوله: «أن تحلوا مشاكلكم مع القضاء والكنيسة والأزهر والإعلام والقوى السياسية والرأى العام». حاول الكتاتنى أن يحصل على أى مساحة، فقال: «ومَن قال إننا ضد الحل؟». ثم حاول أن يتقدم أكثر، قال: «نحن فقط نلوم على صدور بيان من القوات المسلحة يحذر الرئيس فيزيد النار اشتعالًا ويقوى العناصر المناوئة ويجعلها تصر على تهديد أمن البلد فى ٣٠ يونيو». هدوء الكتاتنى دفع السيسى إلى أن يهدأ، قال له: «سواء أصدرت القوات المسلحة تحذيرها أو لم تصدر، فالشعب سيخرج فى ٣٠ يونيو القادم، وأنا أحذر من غضبة الشعب، وكان بيان القوات المسلحة هو إبراء للذمة أمام الجميع، ونحن لن نسمح أبدًا بسقوط الدولة أو إذلال الشعب، ولن يجرؤ ضابط أو جندى على أن يوجه الرصاص إلى صدور المصريين، لن يكون هناك حل أمنى ولن نسمح به أبدًا، وجيش مصر سيحمى شعب مصر». التفت السيسى إلى خيرت الشاطر، ثم عاد ليوجه كلامه إلى الكتاتنى: «وأنا أحذّر أيضًا من تهديدات الأخ خيرت الشاطر باستخدام الميليشيات ضد الجيش أو الشرطة أو الشعب، أقسم بالله العظيم إن أولادنا حياكلوهم ويقطعوهم لو فكروا يعتدوا على الشعب». وضع السيسى ما يُشبه خارطة الطريق، قال للشاطر والكتاتنى: «اطلبوا من الرئيس الاستجابة لمطالب الشعب، الناس تريد الاستفتاء على انتخابات رئاسية مبكرة.. لماذا تخافون؟ لو كان الشعب معكم أهلًا وسهلًا، لو كان الشعب يريد انتخابات رئاسية مبكرة، فلماذا لا نحترم رغبته؟ الحل فى أيديكم ونحن سنكون سندًا وعونًا لكم إذا استجبتم لمطالب المصريين». التقط الكتاتنى خيط الكلام، وقال للسيسى: «أعدك بأننا سنفكر فى الأمر جيدًا، وغدًا سيتضمن خطاب الرئيس ما يُنهى الأزمة ويضع حدًا للخلاف». لم يزد السيسى على أن قال قبل أن ينهى اللقاء: «على بركة الله، ونحن فى الانتظار».الجماعة تخطط لإقالة مسئولى الجيش والشرطة مساء ٢٥ يونيو، توافرت معلومات لأجهزة الدولة المصرية أن جماعة الإخوان تجهز لخطة محددة يتم تنفيذها قبل دقائق من إلقاء محمد مرسى خطابه، الذى حددت له الساعة الثامنة من مساء ٢٦ يونيو. كانت الخطة تقوم على عدة بنود أساسية. أولًا: إقالة كل من الفريق أول عبدالفتاح السيسى، وزير الدفاع، والفريق صدقى صبحى، رئيس أركان حرب الجيش المصرى، واللواء رأفت شحاتة، مدير المخابرات العامة، واللواء محمود حجازى، مدير المخابرات الحربية، واللواء خالد فوزى، رئيس هيئة الأمن القومى، واللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، واللواء خالد ثروت، مساعد الوزير للأمن الوطنى من مناصبهم. ثانيًا: اعتقال ٣٦ من قيادات العمل الإعلامى الذين شنوا هجومًا متواصلًا على جماعة الإخوان ورئيسها، وذلك لقطع الطريق عليهم ومنعهم من الهجوم على قرار الرئيس بإعفاء القيادات العسكرية والأمنية من مناصبهم. كان التنفيذ يقتضى تحديد طريقة إجرائية آمنة، حتى لا يحدث صدام بين مَن ينفذون وهذه القيادات، ففكرت الجماعة أن يقوم عدد من قيادات ميليشياتها المسلحة بالتنفيذ، بعد أن يرتدوا ملابس عسكرية، وتم التجهيز لذلك بالفعل، وأجرت الجماعة اتصالات مع عدد من القيادات العسكرية، وطلبت منهم أن يحلفوا اليمين لمنصب وزير الدفاع خلفًا لعبدالفتاح السيسى، وكان من بين هؤلاء اللواء محمد زكى قائد الحرس الجمهورى، واللواء أحمد وصفى قائد الجيش الثانى، لكنهما رفضا ذلك رفضًا تامًا، وكانت الإجابة الموحدة لهما، أنه لا يوجد فى مصر إلا وزير دفاع واحد هو عبدالفتاح السيسى. عرف عبدالفتاح السيسى بهذه الخطة، فتصرف سريعًا، حيث أمر بنشر القوات فى أرجاء القاهرة الكبرى، وفى المناطق الحيوية بمختلف أرجاء الجمهورية، وهو ما جرى بشكل كامل واحترافى صباح يوم ٢٦ يونيو ٢٠١٣ فى الفترة من الساعة الخامسة حتى الساعة الثامنة صباحًا. عندما عرف محمد مرسى بنشر القوات بهذه الطريقة وهذه السرعة، أدرك أن خطته وخطة جماعته كُشف أمرها، فتراجع عنها، وبدأ فى السيناريو البديل، وهو محاولة استقطاب وزير الدفاع، واعتبر أن هذه محاولة أخيرة، ولا أعرف من أين جاء محمد مرسى بيقينه أنه يمكن أن يقنع عبدالفتاح السيسى بشىء لا يوافق عليه. السيسى بعد خطاب مرسى فى 26 يونيو: «خلاص كده»كان من المفروض أن يتحدث محمد مرسى فى خطاب ٢٦ يونيو ٢٠١٣ ليمتص غضب الشعب، أو على الأقل يصل إلى توافق، وهو ما كان يريده وزير الدفاع عبدالفتاح السيسى. طلب مرسى لقاء السيسى صباح ٢٦ يونيو، وجرى اللقاء بالفعل الساعة الحادية عشرة صباحًا، واستمر لما يقرب من ساعتين. يقول السيسى: «جلسنا معًا من الحادية عشرة ظهرًا إلى الواحدة بعد الظهر، وقال لى: الدكتور الكتاتنى سيأتى وكل اللى أنت بتقوله هنعمله». حاول المقربون من عبدالفتاح السيسى إقناعه بعدم الذهاب إلى هذا اللقاء، فقد كان هناك تخوف من الغدر به، أو على الأقل، إقالته وهو فى قصر الاتحادية كما حدث قبل ذلك مع المشير محمد حسين طنطاوى، لكن السيسى الذى كان يسعى حتى اللحظة الأخيرة إلى حقن الدماء، قرر الذهاب إلى الرئيس، لعل وعسى أن تكون هناك ولو ثغرة عابرة للتفاهم والتراجع والاستجابة لمطالب الناس. جلس عبدالفتاح السيسى ووجد من محمد مرسى تجاوبًا نوعًا ما، اختلفا فى التفاصيل، لكن النتيجة كانت إيجابية إلى حد بعيد، وتم الاتفاق على أن يتضمن الخطاب الذى سيلقيه محمد مرسى استجابة كاملة لمطالب الشعب من إقالة حكومة هشام قنديل، واختيار رئيس حكومة مستقل، وإقالة النائب العام المستشار طلعت عبدالله واختيار نائب عام آخر من بين ثلاثة ترشيحات يقدمها مجلس القضاء الأعلى، وتشكيل لجنة من أساتذة القانون الدستورى والشخصيات العامة للنظر فى مواد الدستور المختلف عليه، وكانت تقريبًا ١٢ مادة، مع تجميد العمل بها حتى الانتهاء من تعديلها، وطرح مسألة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة للاستفتاء العام. لم يكن هذا هو الاتفاق الوحيد الذى عقده عبدالفتاح السيسى مع محمد مرسى، اتفقا أيضًا على أن يجلس الفريق عبدالمنعم التراس، قائد قوات الدفاع الجوى وقتها، مع أحد مستشارى محمد مرسى لمراجعة المسودة النهائية للخطاب، وتم تحديد الساعة الخامسة مساء لذلك، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، فمن الساعة الواحدة ظهرًا بعد أن انصرف السيسى من اجتماعه مع مرسى حتى الساعة الخامسة جرت فى النهر مياه كثيرة. قبل أن يدخل عبدالفتاح السيسى قاعة الخطاب، وجد الكتاتنى يقترب منه ويقول له: «كل اللى أنت قلته هنعمله النهارده»، لكن كل ما جرى كان عكس ذلك تمامًا.أصر مكتب الإرشاد على أن يكون خطاب محمد مرسى متحديًا، بدأ فى الثامنة مساء، وظل لأكثر من ساعتين يردد فيه الرئيس الإخوانى هراء كاملًا، وكانت الخطة أن يهاجم رموز نظام مبارك على أساس أن هذا يمكن أن يجلب له تعاطفًا وتأييدًا ممن شاركوا فى ثورة يناير، تحدث عن جبهة الإنقاذ التى وصفها بأنها جبهة خراب، وأنه يعرف مخططاتها، ولن يتركها، فى محاولة لإضعاف موقفها أو فض المؤيدين عنها، وكشف بسذاجة عن المؤامرات التى تستهدف نظامه من الخارج، وأنه يعرفها جيدًا، ثم تحدث عن حياته هو وحاول أن يستعطف الشعب المصرى ويأخذه إلى جواره، وتحدث عن الظروف الاقتصادية الصعبة، ومن يحاولون إعاقته عن العمل، ثم جاء على القوات المسلحة فى محاولة مفضوحة لاستقطابها إلى صفه. خسر محمد مرسى كل شىء بعد هذا الخطاب. كان الفريق أول عبدالفتاح السيسى جالسًا فى الصف الأول مستمعًا طوال الوقت، دون أن تبدو على وجهه أى انفعالات، كان الجمهور الإخوانى الذى حضر الخطاب متفاعلًا جدًا مع محمد مرسى، يصفق، ويهلل، ويهتف، ويستعدى الرئيس الإخوانى على خصومه. ما بدا على وجه السيسى كان الأسى الكامل، لأنه بالفعل لم يكن يرغب فى أن تصل الأمور إلى حد الصدام الكامل. وصف السيسى ما جرى بقوله: «فوجئت بأن ما يقوله الرئيس عكس ما تم الاتفاق عليه معى ومع الكتاتنى، وباستثناء الاعتذار الذى ذكره فى بداية الخطاب، وقد ابتسمت بسبب الخضوع لأوامر مكتب الإرشاد دون مراعاة مصالح الدولة، والاعتماد على مستشارين اعتادوا إيقاع الرئيس فى أخطاء، وإعداد خطاب لا يرقى لمقام الرئاسة، وقلت لنفسى وأنا أستمع إلى الخطاب: خلاص هما كده بيهددوا الشعب». بعد الخطاب أدرك وزير الدفاع أن الأمر حُسم بشكل كامل، قال: «كان من الواضح إنهم شايفين الصورة بشكل مختلف، لكن تقديرى أن حجم المظاهرات التى حدثت فى تلك الفترة لم تنقل لهم بصورة جيدة، وأدركت أن اللحظة الحاسمة ستكون يوم ٣٠ يونيو».
أخبار مصر, جريدة الدستور
27 يونيو، 2025