أزيح الستار عن سيدة الغناء العربى أم كلثوم، فضج آلاف الجماهير فى مسرح بعلبك بالتصفيق فرحا وترحيبا بنجمتهم المفضلة وهى تغنى يوم الجمعة 11 يوليو، مثل هذا اليوم، 1970، حسبما يذكر الكاتب والباحث كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
كان الحفل هو الثانى لأم كلثوم فى مهرجان بعلبك، بعد حفلها الأول يوم 8 يوليو 1970 وغنت فيه «هذه ليلتى» كلمات الشاعر اللبنانى جورد جرداق، وتلحين محمد عبدالوهاب، و«اسأل روحك» كلمات عبدالوهاب محمد، وتلحين محمد الموجى، وقدمت فى الحفل الثانى أغنية «ودارت الأيام» تلبية لرغبة الجماهير، وأدتها فى تسعين دقيقة، ثم غنت قصيدة «أقبل الليل» لأحمد رامى ورياض السنباطى، ودامت 53 دقيقة تقريبا، ويذكر كريم جمال، أن تجاوب الجماهير بلغ أشده، وحلقت أم كلثوم فى سماوات الطرب، ويؤكد: «كانت تلك هى المرة الأخيرة الذى يتجلى فيها صوتها فى تلك المدينة وفى لبنان بشكل عام».
يؤكد «جمال» أن الصحافة اللبنانية اعتبرت الحفلتين بداية موسم الاصطياف اللبنانى، وأنهما لعبتا دورا سياسيا، إذ هزم غناء أم كلثوم الدعاية الصهيونية ضد لبنان فى الميدان السياحى، ولم تنجح محاولات وزارة السياحة اللبنانية للتصدى، وانتهزت فرصة مجىء أم كلثوم فوجهت الدعوة لحشد من الصحفيين ومصورى التليفزيون من أنحاء العالم لتصوير هاتين الليلتين، كعلامة على الأمان والاستقرار فى لبنان.
ورغم احتفاء الصحافة اللبنانية بأم كلثوم، إلا أن هناك من شق الصف وهاجمها، ويذكر كريم جمال أن صحفيا كتب مقالا بصحيفة «النهار» اللبنانية بتوقيع يحمل حرفى «و. ر»، يقول فيه ما خلاصته ومعناه إن أم كلثوم مخدرة الجماهير ومحرقتها، ويجب أن تتوقف عن الغناء فى بعلبك، لأنها تدنى مستوى المهرجان الدولى، وأن التطلب الثقافى يجبر اللجنة الدولية على وقف تلك الظاهرة، ووقف ما يمكن تسميته التشدد الفنى، وأن أغنياتها تعطيل للحب وتشويه لغناء المشاعر والعاطفة.
يضع كريم جمال هذه الاتهامات ضمن محاولات هجوم بعض غلاة اليسار العربى بعد هزيمة 1967 فى محاولة للانتقام من النظام الناصرى وأذرعه الأدبية والفنية، ومحاولة تحطيم المقربين من شخص جمال عبدالناصر وعلى رأسهم أم كلثوم، فتخصصت بعض الأقلام الشيوعية فى الترويج للتنقيص من قيمة صوتها، وتصويرها على أنها مطربة تصلح للقرن التاسع عشر، وأنها عرقلت مسيرة المسرح الغنائى، وقولبت الغناء العربى وجمدته فى صورته الفردية.
ضج المجتمع الصحفى اللبنانى ضد مقال «النهار»، ورد كبار الصحفيين اللبنانيين، فكتب جورج إبراهيم الخورى افتتاحية قاسية بمجلة «الشبكة» اللبنانية بعنوان «يا آكل صحون البيتزا»، قال فيه: «أنت لا يجب أن تكتب، لأن ملكة المسارح لا تدنى مستوى المهرجانات والتطلب الثقافى والتشدد الفنى، كما تقول وتتفلسف، بل ترفعها إلى مستواها وإلى ذروتها وإلى قمة قممها، وترفع معها أبناء الجيل الجديد إلى سدة التشبع من الكلمة العربية والتصوير الموسيقى الدقيق لها».
وكتب الكاتب الكبير سعيد فريحة مقالا طويلا ضمن بابه «الجعبة» بمجلة «الصياد»، وأعادت مجلة الشبكة» نشره يوم 13 يوليو 1970، قائلا: «إن الشذوذ ليس جديدا فى عباد الله، ولكن الجديد هو الافتراء على عطية الله ومعجزته الكبرى فى الغناء: السيدة أم كلثوم، إن أحدا لم يكرم الشعر كما كرمته، ولم ينهض بمستوى الغناء والأداء كما نهضت هى به، ولم ينشر الحب والجمال والخير والرحمة كما فعلت هذه المعجزة التى تأتى مرة واحدة إلى الدنيا، إنها جعلت العرب جيلا بعد جيل يطربون لشعر شوقى وعمر الخيام وجورج جرداق وغيرهم من شعراء الفصحى، طربهم لرامى وبيرم التونسى وعبدالوهاب محمد وسواهم من شعراء الزجل، وكثيرا ما حار الناس فى مقارنة بين شعر يغنى بالفصحى وشعر يغنى بالعامية، ولم يكن مصدر الحيرة سوى صوت أم كلثوم وقدرتها الخارقة على الأداء والتصرف والتحكم بالألحان والأنغام، فإذا هى ترتجل من كل لحن ونغم عشرات الألحان والأنغام، فتبدو على المسرح وكأنها عابدة متصوفة أتاها الوحى والإلهام، فنسيت نفسها وجمهورها وراحت تغنى للإله المجهول الذى هو مصدر وحيها وإلهامها».
يؤكد كريم جمال، أن الرد الأقسى كان من الشاعر جورج جرداق، الذى كتب فى العدد ذاته من مجلة «الشبكة» مقالا طويلا بعنوان «غنى يا أم كلثوم واخرسوا يا غلمان»، تكلم فيه عن مفهوم التخدير قائلا: «الخدر ليس مسبة، وليس عارا، لا فى الطرب ولا غيره، الإغريق عندما هزموا العالم القديم بقيادة الإسكندر أبوالقرنين كانوا مخدرين بروح الفتح، والعرب عندما قهر عشرون ألفا منهم فى اليرموك مئة ألفا بيزنطى كانوا مخدرين بروح الوحى، وجان جاك روسو عندما خطط للإنسانية الجديدة، وبنى العصور الحديثة كان مخدرا بمعانى الطبيعة ومواهبها الأصيلة، الإيمان على اختلاف أنواعه وأشكاله ومحتوياته صانع المعجزات هو قمة الخدر، فإذا كان الخدر عاملا أساسيا فى عظائم الأمور، لماذا تريد أن نرفضه فى الطرب سببا ونتيجة».