اليوم السابع, مقالات 21 نوفمبر، 2025

تعتبر العلاقة مع الجار من أسمى الروابط الاجتماعية التى حث عليها الدين والقيم الإنسانية، لما لها من أثر كبير فى تعزيز التآلف والتماسك المجتمعي.

 

مبادرة صحح مفاهيمك، أوضحت أن ظاهرة التعدى على الجار -سواء كان ذلك بالتعدى على حقه فى الخصوصية، أو إلحاق الضرر المادى أو النفسى به- أصبحت ظاهرة متزايدة تهدد استقرار المجتمع وتخل بروابط المحبة والاحترام.

 

وتهدف مبادرة “صحح مفاهيمك” إلى تسليط الضوء على أهمية احترام الجار وحقوقه، وتصحيح السلوكيات الخاطئة التى قد تؤدى إلى التعدى عليه، من خلال خطاب دعوى وتوعوى يركز على القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية.

 

الإحسان إلى الجيران واجب شرعي:

أوجب الإسلام على المسلم الإحسان إلى الجار، والتودد معه، والعطف عليه، ورعايته فى كل شئونه، وجاءت الوصية به فى كثير من آى الذكر الحكيم، قال تعالى ﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب﴾ [النساء: ٣٦].

 

وعن مجاهد رحمه الله، أن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما ذبحت له شاة فى أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». [رواه الترمذى وحسنه].

 

وعن أبى ذر رضى الله عنه، قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك» [رواه مسلم].

 

الجيران ثلاثة:

اهتم الفقهاء بمبحث الجار اهتماما كبيرا، فقسموه إلى أنواع، وبينوا حق كل نوع منها، ومن خلال استقراء النصوص تبين أن الجيران ثلاثة:

– جار له ثلاثة حقوق: وهو الجار المسلم القريب ذو الرحم، له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة.

– جار له حقان: وهو الجار المسلم، له حق الجوار، وحق الإسلام.

– جار له حق واحد: وهو الجار غير المسلم، له حق الجوار، وأمرنا الإسلام بحسن معاملته، وعدم التعرض له بأى نوع من الإيذاء قولا كان أو فعلا، قال تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين﴾ [الممتحنة: ٨].

 

وضرب النبى صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة فى حسن الجوار مع غير المسلمين، فلم يؤثر عنه أن تعدى عليهم أو تعرض لهم بأى لون من ألوان الأذى أو المضايقة، بل كان يتفقد حالهم إذا غابوا، أو يقدم لهم العون أن احتاجوا؛ فعن أنس رضى الله عنه، أن غلاما من اليهود كان يخدم النبى صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال: «أسلم»، فنظر إلى أبيه، وهو عند رأسه، فقال له: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذى أنقذه من النار» [رواه البخاري].

 

وقد وضع الإمام الحسن البصرى رضى الله عنه قاعدة عريضة فى حد الجار، حينما سئل عن الجار، فقال: “أربعين دارا أمامه، وأربعين خلفه، وأربعين عن يمينه، وأربعين عن يساره” [رواه البخارى فى “الأدب المفرد”].

 

وإذا كان تحديد الجوار أربعين دارا، وكلها داخل فى الوصية بالجار، فهذه الأربعون تتفرع، فأقصى بيت من الأربعين يراعى حقوق أربعين بيتا أخرى وهكذا، فتكون النتيجة: أن تتموج حقوق الجوار وتنتشر كتموج موجات الأثير حتى تعم العالم كله، ولا يبقى شبر على وجه الأرض إلا ودخل فى وصايا النبى صلى الله عليه وسلم، ولو راعينا حرمة الجوار بين المدن والأقطار، لحصل خير كثير، فكل دولة تراعى حقوق جارتها؛ فالجوار بهذا المفهوم يشمل الجميع، وبهذا يعم السلام، وتحفظ الإنسانية من الاعتداء على أرضها وعرضها ومالها، وهذا مقصد ربانى حثت عليه كل الشرائع السماوية.

أذى الجيران محبط للعبادة:

فعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رجل يا رسول الله: أن فلانة يذكر من كثرة صلاتها، وصيامها، وصدقتها، غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها، قال: «هى فى النار»، قال: يا رسول الله: فإن فلانة يذكر من قلة صيامها، وصدقتها، وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذى جيرانها بلسانها، قال: «هى فى الجنة». [رواه أحمد].

 

ومن أراد أن يعرف أنه محسن، فلينظر إلى حاله مع جيرانه، هل يحسن إليهم أم لا؟ فعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، دلنى على عمل إذا أنا عملت به دخلت الجنة، قال: «كن محسنا» قال: كيف أعلم أنى محسن؟ قال: «سل جيرانك، فإن قالوا: إنك محسن فأنت محسن، وإن قالوا: إنك مسيء فأنت مسيء» [رواه البيهقى فى “شعب الإيمان”].

 

التعدى على الجيران.. حرمته وعقابه:

التعدى على الجوار من علامات الساعة؛ فعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يبغض الفحش والتفحش، والذى نفس محمد بيده، لا تقوم الساعة حتى يخون الأمين، ويؤتمن الخائن، حتى يظهر الفحش والتفحش، وقطيعة الأرحام، وسوء الجوار». [رواه أحمد].

 

وقد حرم الإسلام التعدى على الجار بأى شكل من الأشكال، سواء بالقول أو الفعل، بل يرتقى الإحسان إليه إلى درجة عبادة الله، ويعد إيذاؤه جريمة أخلاقية واجتماعية؛ فعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» [متفق عليه].

 

وعن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» [رواه مسلم].

 

وعن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «جار لا يأمن جاره بوائقه» قالوا: يا رسول الله، وما بوائقه؟ قال: «شره» [رواه أحمد].

 

قال الدكتور موسى شاهين لاشين: (إن الأمن على النفس والمال والعرض من نعم الله الكبرى، وأقرب الناس تهديدا لهذا الأمن هو الجار؛ لأن الحذر منه أصعب من الحذر من غيره، والضرر منه أشد خطرا من الضرر من غيره، إنه يعرف كثيرا من الخفايا، ويكشف كثيرا من الأستار، ويطلع على كثير من العيوب، إنه أعلم بمواطن الضعف، وأقدر على توصيل الأذى.

 

والإسلام يحرص على استتباب الأمن، ونشر الطمأنينة والاستقرار بين أبناء المجتمع الواحد، لهذا جعل مسالمة الجار من الإيمان، وجعل حبس النفس عن أذى الجار من الإيمان، بل جعل خوف الجار من الجار دليلا على ضعف إيمان الجار الذى بعث الخوف، وإن لم يصل ضرره لجاره بالفعل…، نعم هذا التشريع الحكيم لو أمن كل جار جاره، وكف كل جار عن ضرر جاره، وحمى كل جار محارم جاره، لكانت المدينة الفاضلة، ولكان المجتمع الموادع الأمين، ولعاش الناس سعداء آمنين) [فتح المنعم شرح صحيح مسلم].

إشاعة عيوب الجار من الفواقر

فعن فضالة بن عبيد الأنصارى رضى الله عنه، قال: “ثلاث من الفواقر:…، وجار أن رأى حسنة دفنها، وإن رأى سيئة أفشاها، وزوجة أن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك فى مالك ونفسها”. [رواه وكيع بن الجراح فى “الزهد”].

 

الصبر على أذى الجار:

ديننا الحنيف كما ينهى عن التعدى على الجار، كذلك يرغب فى الصبر على أذاه، وتحمل ما يصدر منه، فمن تصبر عليه نال محبة الله؛ فعن أبى ذر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يحبهم الله…، ورجل له جار يؤذيه، فيصبر على أذاه ويحتسبه حتى يكفيه الله إياه بموت أو حياة». [رواه أحمد].

 

والتعدى على الجار يجلب اللعنة لصاحبه؛ فعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال: «اذهب فاصبر» فأتاه مرتين أو ثلاثا، فقال: «اذهب فاطرح متاعك فى الطريق» فطرح متاعه فى الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله به، وفعل، وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع لا ترى منى شيئا تكرهه. [رواه أبو داود].

 

حرمات الجار:

ربى الإسلام المسلم على حفظ حرمات الجار، وعدم التطلع إلى عورته؛ فعن المقداد رضى الله عنه، قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الزنا؟ قالوا: حرام، حرمه الله ورسوله، فقال: «لأن يزنى الرجل بعشر نسوة، أيسر عليه من أن يزنى بامرأة جاره»، وسألهم عن السرقة؟ قالوا: حرام، حرمها الله ورسوله، فقال: «لأن يسرق من عشرة أهل أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره» [رواه أحمد].

ولله در حاتم الطائى حيث قال:

نارى ونار الجار واحدة… وإليه قبلى تنزل القدر

ما ضر جارا إلى أجاوره… ألا يكون لبيته ستر

أعمى إذا ما جارتى ظهرت… حتى يغيب جارتى الخدر

ويصم عما كان بينهما… سمعى وما بى غيره وقر

تنشئة الأولاد على احترام الجيران:

 

يجب تربية الأولاد على تعظيم حق الجار، وكف الأذى عنه، وإخبارهم بما فى إكرامه من عظيم الأجر، وما فى أذيته من الوعيد الشديد؛ إذ الأذية قد تصدر من زوج الرجل أو ولده، فلا يتساهل معهم، بل يظهر غضبه عليهم؛ ليعلموا أن هذا الأمر شنيع فلا يتهاونون، ولا يستخفون به؛ ولذا كان العرب فى الجاهلية يتفاخرون بحسن الجوار، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار، وقد باع أحدهم منزله فلما لاموه فى ذلك قال:

 

يلوموننى أن بعت بالرخص منزلى *** ولم يعرفوا جارا هناك ينغص

 

فقلت لهم: كفوا الملام فإنما *** بجيرانها تغلوا الديار وترخص

 

قال ابن العربى المالكي: (على المرء أن يوقظ جاره من الغفلات، وينقله إلى الطاعات، ويأمره بإقامة الصلوات، وهذا من حقوق الجوار، وقيل: أن الجار الصالح يشفع يوم القيامة فى جيرانه ومعارفه وقرابته.

 

الجوار والأحكام الفقهية:

ذكر الفقهاء أحكاما فقهية كثيرة متعلقة بجيران الدور، وجيران المزارع… إلخ، وذكروا ما يمنع الإنسان من فعله فى ملكه أو فى مشترك بينه وبين جاره كالطريق ونحوه، وضابط ذلك: “أنه ليس للإنسان أن يتصرف فى ملكه بما يتعدى على جاره”؛ عملا بحديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه» [رواه الدارقطنى فى “سننه”، والبيهقى فى “السنن الكبرى”].

 

وإذا احتاج الجار إلى منفعة فى دار جاره أو حائطه، فلا يمنعه منها إذا كان ذلك لا يضره، ومنعه منها يوقع الأذى عليه؛ عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة فى جداره»، قال: ثم يقول أبو هريرة: ما لى أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم [متفق عليه].

 

وكى يمنع وقوع التعدى على الجار، بين النبى صلى الله عليه وسلم أن “الجار أحق بالشفعة”، وأنه يحتاج إلى إذنه قبل بيع ما يلاصقه من أرض أو زرع حفظا لحق الجوار؛ فعن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له أرض فأراد بيعها، فليعرضها على جاره» [رواه ابن ماجه].

 

وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا» [رواه أبو داود، وأحمد].

الجوار علاقة مقدسة تعكس مدى حضارة المجتمع وقيمه.

خطوات إجرائية لتعزيز الوصية بالجار:

– التزام حسن التعامل، كالسلام والتحية والابتسامة.

– مراعاة الهدوء والاحترام فى المواقف المختلفة.

– المشاركة فى المناسبات الاجتماعية، وتقديم الدعم عند الحاجة.

– الحرص على زيارات منتظمة للجار، لا تكون مشروطة بالمصالح.

– تشجيع الأولاد على التعارف على الجيران وحقوقهم والتواصل المستمر.

– تجنب الغضب أو الشحناء مع الجيران.

– حفظ الأمانة والسر عند التعامل معهم.

زيارة مصدر الخبر