مصراوي, مقالات 27 نوفمبر، 2025

د. رودينا خيري
أصبحت جرائم التحرش وهتك عرض الأطفال وباء اجتماعيا ونفسيا معقدا، يهدد براءة أجيالنا ومستقبلنا، ولا يمكن اختزاله في مجرد فعل فردي عابر؛ فلقد شهدت مصر في السنوات الأخيرة أحداثا هزت ضمير المجتمع وكشفت هشاشة نظام حماية الأطفال، حتى في البيوت والمدارس وأماكن العبادة، من بين هذه الوقائع المؤلمة، مأساة الطفلة زينة في بورسعيد عام 2014، حيث استدرجها طفلان إلى سطح المنزل وحاولا اغتصابها ثم ألقوها ففقدت حياتها؛ وحادثة الطفل ياسين في دمنهور 2025، الذي تعرض لهتك عرض داخل دورة مياه المدرسة من قبل رجل مسن وحكم على المعتدي بالسجن المؤبد؛ وصولا إلى أحداث مدرسة سيدز الدولية بالسلام في نوفمبر الجاري 2025، حيث تم التحقيق مع أربعة من العاملين بعد بلاغ عن هتك عرض عدة أطفال في مرحلة رياض الأطفال، أما أماكن العبادة، فلم تسلم بدورها من الانتهاكات، ففي الدقهلية حاول رجل هتك عرض طفلة بعد درس قرآن، وفي شبرا الخيمة حكم على عامل بالسجن المشدد سبع سنوات لاعتدائه على طفل داخل مسجد، وفي الغردقة أصدر القضاء حكما بالسجن المشدد عشر سنوات على إمام مسجد هتك عرض طفل بعد درس تحفيظ قرآن؛ كل هذه الوقائع تثبت أن الخطر قد يأتي من الداخل، من أشخاص يفترض بهم حماية الأطفال، وليس فقط من الغرباء.

من منظور تربوي وأكاديمي، تتجذر هذه المشكلة في شبكة معقدة من العوامل: أولها ضعف الوعي الأسري والمجتمعي بحقوق الطفل وحدوده الجسدية، إذ يجهل الكثيرون أن تعليم الطفل منذ الصغر عن حقه في رفض أي تحرش أمر حيوي وضروري، ثانيا: ضعف الرقابة المؤسسية على أماكن وجود الأطفال، سواء كانت مدارس، رياض أطفال، نوادي، أو أماكن دينية، وعدم وجود بروتوكولات صارمة لفحص الموظفين وتأهيلهم نفسيا وسلوكيا للتعامل مع الأطفال، ثالثا: الانفلات الأخلاقي وضعف القيم المجتمعية لدى بعض الأفراد يجعلهم يستغلون سلطتهم أو ثقة المجتمع لإيذاء الأطفال، وهو ما يعكس قصورا تربويا وأخلاقيا وغيابا للتربية الدينية الفاعلة منذ الصغر، رابعا، غياب ثقافة التبليغ وحماية الشهود يجعل بعض الاعتداءات تمر دون رادع، مما يعزز الجرائم ويقوي الفكرة الخاطئة لدى المعتدين بأنهم لن يحاسبوا.
من الناحية النفسية، هناك أسباب محددة وراء هذا السلوك المنحرف: بعض المعتدين يعانون من اضطرابات جنسية أو نفسية لم يتم علاجها منذ الطفولة أو المراهقة، أو لديهم تاريخ من التعرض للإيذاء، مما يزيد من احتمال تكرار السلوك المرضي، وهو ما تؤكده الدراسات النفسية الحديثة حول دوائر العنف المتكرر، كما أن الميل النفسي لاستغلال السلطة أو الثقة، المعروف في علم النفس باسم الرغبة في السيطرة على الضعفاء، يجعل الأطفال أهدافا سهلة، وكثير من هؤلاء المعتدين يستخدمون آليات دفاعية مثل التبرير النفسي، الإنكار، أو تشويه صورة الضحية لتقليل شعورهم بالذنب، ويكون البعض مدفوعا بالفضول الجنسي المرضي والرغبة في الانتصار النفسي على من هو أضعف، إلى جانب ذلك، تسهم ثقافة الصمت والخوف من الفضيحة في استمرار الاعتداءات، إذ يمتنع الأطفال وأهاليهم عن الإبلاغ، فيستغل المعتدون هذا الخوف ويواصلون جرائمهم دون رادع.
ولذلك، فإن الحل لا يقتصر على العقوبة القانونية وحدها، بل يحتاج إلى تدخلات تربوية ونفسية مجتمعية متكاملة: على المستوى الأسري، يجب تعليم الأطفال حدود أجسادهم وحقهم في الرفض والإبلاغ عن أي تحرش، وتعزيز ثقافة الحوار المفتوح داخل الأسرة، بما يرسخ في ذهن الطفل أنه ليس وحده وأن الأمان حق له، وعلى المستوى التربوي والمؤسسي، يجب تدريب المعلمين والموظفين على التعرف إلى علامات التعرض للتحرش والاستجابة الفورية، مع وضع بروتوكولات واضحة للإبلاغ والمتابعة وفحص جميع العاملين قبل التوظيف، ومتابعة سلوكهم بشكل دوري، وعلى المستوى المؤسسي والديني، ينبغي وضع آليات صارمة لمراقبة أي شخص يعمل مع الأطفال، سواء في المدارس أو المساجد، وتدريب القائمين على حماية الأطفال جسديا ونفسيا، وإلزام كل مكان بنظام رقابي فعال.
والتوعية المبكرة هي خط الدفاع الأول للأطفال، إذ يجب تعليم الطفل منذ الصغر حقوقه في الخصوصية وحدود جسده، وأن أي لمسة أو تصرف يسبب له الانزعاج أو الخوف لا يجوز السكوت عنه، وفي المنزل، يمكن للأهل فتح حوار صريح ومستمر، وتعليم الطفل كلمات للتعبير عن شعوره، وممارسة تمارين عملية لكيفية رفض أي محاولة للتحرش والإبلاغ عن الكبار الموثوقين فورا، وفي المدرسة، يجب أن يشارك المعلمون الأطفال أنشطة تثقيفية توضح لهم الأماكن الآمنة والأشخاص الموثوقين عند الشعور بالخطر، ويمكن استخدام القصص والتمثيل العملي لتعزيز الوعي الذاتي، والأهم أن يشعر الطفل أن الإبلاغ عن أي تصرف خاطئ ليس خيانة أو فضيحة، بل وسيلة لحمايته وحماية أصدقائه، وأن المجتمع كله ملتزم بحمايتهم، فالتوعية المستمرة والحديث اليومي عن الأمان والحدود الشخصية يجعل الطفل أكثر قدرة على الدفاع عن نفسه ويقلل من فرص استغلاله.
من الناحية القانونية، وضع سن قانوني لحماية الطفل والالتزام بعقوبات رادعة يؤدي دورا حاسما في ردع المعتدين، ويجب أن تكون القوانين واضحة وشاملة، وتشمل عقوبات صارمة لكل من يعتدي على طفل أو يغفل عن حماية الأطفال في مسؤولياته، فالجمع بين العقوبة القانونية والوقاية والتربية المستمرة يعزز الأمان المجتمعي ويحد من انتشار هذه الجرائم.
من المنظور الأخلاقي والديني، تعد حماية الأطفال واجبا مقدسا وحقا لهم على كل فرد في المجتمع، فالإسلام يحرم أي اعتداء عليهم أو استغلالهم، ويعتبر ذلك خيانة للأمانة الإنسانية وانتهاكا صارخا لحقوقهم، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” (رواه البخاري ومسلم)، فالطفل جزء من رعايتنا، ونحن مسؤولون أمام الله عن حمايته وتأمين سلامته، وأي اعتداء يقع عليه يستوجب العقوبة والردع، وقد أقر الفقهاء أن أي فعل من قبيل التحرش أو هتك العرض يعد من الكبائر، ويستحق العقوبة سواء بالحد الشرعي إن أمكن أو بالتعزير، لما يسببه من ضرر جسيم للطفل والمجتمع، ولأن الإسلام يولي الأطفال حرمة كاملة ويحمي براءتهم، فالاعتداء عليهم ليس مجرد جريمة فردية، بل ظلم فادح يستوجب ردع المعتدي ووقوف المجتمع ككل لحماية الأبرياء.
وليس الإسلام وحده من يوصي بحماية الأطفال، فكل الشرائع السماوية، بما فيها الإنجيل والتوراة، تؤكد وجوب رعاية الصغار وعدم إيذائهم، وتعتبر الاعتداء عليهم ظلما كبيرا وخيانة للأمانة الإنسانية، وتحث المجتمعات على ردع المعتدين وحماية الأبرياء، وبالتالي، يصبح واضحا أن حماية الأطفال ليست خيارا، بل واجبا دينيا وأخلاقيا واجتماعيا؛ والسكوت عن أي تهديد أو استغلال يعد خيانة للأمانة، ويجب على كل فرد في الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية والمجتمع أن يضمن سلامة الأطفال، ويحول دون أي اعتداء، وأن يسارع بالإبلاغ عن المعتدي فورا، ليصبح المجتمع كله درعا يحمي الصغار ويصون براءتهم.
إن فهم جذور المشكلة النفسية والاجتماعية، وتطبيق الحلول العملية على كل مستوى، من الأسرة إلى المدرسة إلى المجتمع ككل، هو الطريق الوحيد لخلق بيئة آمنة للأطفال، وحماية براءتهم، وضمان سلامة المجتمع بأكمله، فحماية الأطفال مسؤولية جماعية لا تقتصر على الأسرة وحدها، بل تشمل المجتمع بأكمله، من المؤسسات التعليمية والدينية إلى الجيران وكل من له علاقة بالأطفال، وكل لحظة يقظة، وكل حديث توعوي، وكل مراقبة دقيقة، وكل بروتوكول حماية فعال هو خطوة لإنقاذ براءة لا تعوض وحماية لأجيالنا القادمة، لنكن يقظين، لنرفع الصوت، ولنحمي الأطفال بكل الوسائل الممكنة، لأن الأمانة التي بين أيدينا هي أثمن ما نملك، وحماية براءة الأطفال هي أعظم خدمة يمكن أن نقدمها لأمتنا.

زيارة مصدر الخبر