لآلاف السنين استخدم البشر أساليب متنوعة لحفظ موتاهم، كالتحنيط والتجفيف وحماية الجثث من التحلل، وبينما تعود أشهر الأمثلة إلى مصر القديمة وأمريكا الجنوبية، تشير الأدلة إلى أن أصول التحنيط قد تعود إلى ما قبل ذلك بكثير، إلى العصر الحجري.
أظهر تحليل البقايا التي عثر عليها في قبور منتشرة في أنحاء جنوب شرق آسيا، من الصين إلى إندونيسيا، أن البشر مارسوا التحنيط قبل نحو 12,000 عام، وهذا يجعل تلك البقايا أقدم من مومياوات حضارة تشينتشورو في أمريكا الجنوبية (قبل حوالي 7,000 عام) ومومياوات المملكة المصرية القديمة (قبل حوالي 4,500 عام). وخلافًا لتلك الأمثلة المعروفة، حفظت مومياوات جنوب شرق آسيا عبر تجفيفها على نيران دخانية لفترات استمرت عدة أشهر.
أدلة قديمة على بقايا مدخنة
في دراسة أجريت في سبتمبر 2025، قام هسياو تشون هونج، وهو زميل بحثي كبير في الجامعة الوطنية الأسترالية، وزملاؤه بتحليل هياكل عظمية معروفة سابقا للعلم، واكتشفوا أن البقايا التي تم العثور عليها في 54 مدفنًا قديمًا ضمن 11 موقعًا أظهرت جميعها علامات تحنيط لم يلتفت إليها من قبل.
وقد دفنت العديد من الجثث في أوضاع منحنية أو في هيئة القرفصاء، وهو ما يصعب على جثة حديثة الوفاة اتخاذه، لكنه يصبح ممكنا إذا كانت الجثة قد ربطت بإحكام بعد تجفيفها بالدخان باستخدام تقنيات شبيهة بتلك المستخدمة حديثًا لدى الجماعات العرقية في مرتفعات غينيا الجديدة.
كيفية تحنيط المومياء
فى حين أن المصريين القدماء حنطوا المومياوات عبر عملية معقدة تضمنت إزالة الأعضاء الداخلية وتجفيف الجسم بمزيج من الأملاح وتغطية الجلد بالزيوت ثم لفّه بطبقات من الكتان، فإن أساس التحنيط بسيط ومرتبط بالبيئة نفسها.
ويقول ألبرت زينك، عالم الأنثروبولوجيا ورئيس معهد دراسات المومياوات في بولزانو بإيطاليا، المبدأ العام هو إيقاف عملية التحلل الطبيعي للجثة، وهذا يعتمد بدرجة كبيرة على البيئة، العامل البيئي هو السبب في أن معظم نماذج المومياوات، سواءً المتكونة طبيعيًا أو من صنع الإنسان، تأتي من أماكن شديدة الجفاف، كالصحاري الحارة أو الباردة، أو من كهوف أو مقابر ذات تدفق هواء مناسب، جاء ذلك بحسب ما ذكر موقع هيستورى.

المومياء
أوتزى “رجل الجليد”
حتى أوتزي “رجل الجليد” البالغ من العمر 5,000 عام والذي اكتُشف في نهر جليدي إيطالي عام 1991، قد حنط بالجفاف بقدر ما حُنّط بالتجمّد، يقول زينك إن شرط الجفاف يفسر ندرة نماذج التحنيط في المناطق الاستوائية الرطبة؛ فحتى لو أمكن حفظ الجثة لفترة، كما في نماذج التجفيف بالدخان الحديثة، فإن الأنسجة الرخوة تتحلل في النهاية بفعل الرطوبة، ولهذا السبب قد تُخلط عظام المومياوات بعظام أشخاص دفنوا سريعا بعد الموت.
ويبدو أن تقاليد التحنيط تتطور حين يلاحظ الناس عمليات طبيعية تبطئ التحلل، كما يشير زينك، ثم يتعلمون كيفية تعزيز هذه العمليات، مثل إزالة الأعضاء السريعة التحلل أو معالجة الجثة بالأملاح أو الراتنجات أو لفها بأغطية خاصة.
وقد استغرق المصريون القدماء آلاف السنين لتطوير مهارات التحنيط إلى المستويات التي وُجدت في مومياوات رمسيس الثاني وتوت عنخ آمون التي صمدت طويلًا.
ويرى زينك أن اكتشاف أن الناس مارسوا التحنيط منذ فترة أطول وفي أماكن أكثر مما كان معروفًا سابقًا هو أمر لافت للغاية. ويقول: هذا يعيدنا إلى فترة يمكن أن نجد فيها مومياوات في مناطق مختلفة من العالم.
ورغم عدم وجود أي أنسجة رخوة في المدافن، استنتج هونج أن العظام نفسها قد تحمل أدلة على كيفية تحضيرها، وباستخدام حيود الأشعة السينية والتحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء، أكد الفريق أن العديد من المدافن تعرضت لفترات طويلة لحرارة منخفضة، مما يشير إلى أنها حفظت بالدخان.
الاحتفال مع الموتى
ترتبط معظم ممارسات التحنيط حول العالم بالمعتقدات المتعلقة بالحياة الآخرة. يقول زينك: “هناك نوع من الحلم بأن الحياة لا تنتهي بموت شخص ما، فأحيانًا تحفظ الجثة اعتقادًا بأن المتوفى سيحتاجها في العالم الآخر، وأحيانًا يكون الأمر اجتماعيًّا بحتًا.
فعند شعب الإنكا في أمريكا الجنوبية، كان الحكام المحنطون يعقدون المحاكم إلى جانب خلفائهم الأحياء، ويحتفظون بممتلكاتهم، وكان أحفادهم يرتدون ملابسهم ويعتنون بهم، في هذه الحالات، يمكن التحنيط المجتمعات من الحفاظ على حضور أسلافهم لفترة أطول. ومن المحتمل أن الصيادين وجامعي الثمار القدماء الذين ربطوا موتاهم ودخنوهم قبل 10,000 عام في المنطقة نفسها تقريبًا كانوا يفعلون الشيء ذاته.
وقد وجد الباحثون الذين حللوا البقايا تشابهًا وراثيًا بين صانعي المومياوات القدماء في جنوب شرق آسيا وبين سكان بابوا غينيا الجديدة والسكان الأصليين في أستراليا، ويشير هذا إلى أنهم ينحدرون على الأرجح من الموجة الأولى من الصيادين وجامعي الثمار من الإنسان العاقل الذين هاجروا من إفريقيا إلى آسيا الاستوائية.
التحنيط المصري يختلف عن أى شكل آخر
ومن جانبه قال عالم المصريات الدكتور حسين بصير، فى تصريحات خاصة لـ”اليوم السابع”، يختلف التحنيط في مصر القديمة عن أي شكل آخر لحفظ الجسد عبر التاريخ لأنه لم يكن نتيجة صدفة بيئية ولا عملية طبيعية، بل كان مشروعًا حضاريًا كاملًا يقوم على عقيدة راسخة تؤمن بالبعث والخلود. كان المصريون يعتقدون أن الروح تعود من جديد إلى الجسد، ولذلك كان عليهم أن يحافظوا عليه في أفضل حالة ممكنة. استخدموا في ذلك منهجًا علميًا دقيقًا يجمع بين إخراج الأحشاء، وتجفيف الجسد بالنطرون، ودهانه بالزيوت والراتنجات، ولفّه بعناية بالكتان، ووضع التمائم والتعويذات التي تحميه في رحلته إلى العالم الآخر. لقد كان التحنيط جزءًا من منظومة تشمل الدين والطب والعمارة والطقوس، ولهذا أصبح أطول وأكمل تجربة حفظ للجسد مقصودة في تاريخ البشر.
وأوضح حسين عبد البصير، عندما نقارن ذلك بالتحنيط الطبيعي مثل حالة رجل الثلج أوتزي، نرى الفرق بوضوح. أوتزي لم يُحنّط بيد بشر ولا وفق نية أو طقس، بل حفظه الجليد مصادفة بسبب انخفاض الحرارة والجفاف والغطاء الثلجي الذي منع تحلل جسده. الطبيعة هنا كانت هي المحنّط الحقيقي، لا الإنسان، وهذا النوع من الحفظ نادر وعابر ولا يعكس ثقافة أو علمًا مستمرًا. كذلك فإن الهياكل العظمية التي نجدها في أنحاء العالم ليست إلا بقايا أجساد تحللت تمامًا ولم تُحفظ أنسجتها؛ فهي لا تمثل تحنيطًا ولا تقنية، بل مجرد نتيجة طبيعية لمرور الزمن على جسد دُفن أو تُرك في ظروف أدت إلى تحلل كل شيء ما عدا العظام.
وأضاف حسين عبد البصير، بالنسبة إلى المومياوات المصرية فتمثل قمة ما وصلت إليه حضارة من حيث الدقة والجمال والتطور، المومياء المصرية ليست جسدًا محفوظًا فقط، بل عملًا فنيًا وروحيًا في آن واحد؛ طبقات من اللفائف المحكمة، تمائم مذهلة، وأقنعة ملوّنة، وزيوت وعطور، ومواد راتنجية، وتنظيم متقن يستمر آلاف السنين. كل مومياء تحكي قصة عصر كامل وتكشف مستوى الطب والحرف والدين والفكر في تلك الفترة. ولهذا السبب نالت مصر الأسبقية والشهرة والاستمرارية؛ لأنها قدمت للعالم تجربة منهجية، متطورة، ودائمة، أتقنها المتخصصون وعاش عليها المجتمع كله عبر أكثر من 2500 عام.
وأكد حسين عبد البصير أن المومياوات المصرية تظل ساحرة لأنّها ليست بقايا صامتة ولا بقايا محفوظة بالصدفة، بل وجوه حقيقية من الماضي تحمل ملامحها كما تركها أصحابها، وتمنحنا فرصة نادرة لرؤية إنسان عاش قبل آلاف السنين كما لو كان بيننا اليوم. إنها مزيج من العلم والفن والدين، ولذلك لا يوجد ما يشبهها في تاريخ الحضارات.