ليس كل من اشترى الذهب رابحًا، وليس كل من ابتعد عنه خاسرًا، الفارق الحقيقي لا يصنعه السعر وحده، بل تصنعه لحظة القرار، وما يسبقها من فهم وقراءة للمشهد.
متى تشتري الذهب دون مخاطرة؟
الذهب قد يبدو على الشاشات رقمًا يتحرك صعودًا وهبوطًا، لكنه في الواقع قصة أطول وأثقل، تُكتب في المناجم قبل أن تظهر في الأسواق، وتُحسم في غرف السياسة والمال قبل أن تصل إلى يد المواطن.يقدم سيد الأبنودي، الصحفي المتخصص في شؤون الثروة المعدنية والمعادن بجريدة «الدستور»، قراءة تحليلية للمشهد بالكامل كما هي: سوق ذهب عالمي تحكمه ثلاثة محاور كبرى في آن واحد: محور التعدين والإنتاج والتكلفة، ومحور السياسة النقدية والشراء الرسمي والسيولة، ومحور الجيوسياسة والمخاطر وسلوك المستثمرين. ومن يفهم هذه المحاور يدرك أن الذهب قد يكون ملاذًا، لكنه ليس تذكرة مضمونة للربح، وأن القفز للشراء عند القمم قد يحول الملاذ إلى عبء نفسي ومالي.الذهب في جوهره سلعة تعدين، لكنه في الواقع أصل مالي وسيادي، المعروض السنوي الذي يأتي من المناجم لا يشبه معروض سلع أخرى تُستهلك ثم تختفي، لأن الذهب لا «يفنى» بالمعنى الاقتصادي، بل يبقى مخزونًا فوق سطح الأرض، ينتقل بين خزائن الدول، ومحافظ المستثمرين، وأسواق المجوهرات، وتستدعيه السيولة حينًا وتعيده الأزمات إلى الواجهة حينًا آخر. لذلك، لا يمكن تفسير السعر بعبارة واحدة أو سبب واحد، السعر هو نتيجة تراكم قرارات، بعضها بطيء وثقيل مثل قرارات البنوك المركزية، وبعضها سريع وحاد مثل تدفقات الصناديق والمضاربين.ومن قلب المشهد، تقف صناعة تعدين الذهب كحجر الأساس، إنتاج المناجم عالميًا مستقر في المجمل، لكنه يواجه ضغطًا متصاعدًا: اكتشافات أقل سهولة، خامات أقل تركيزًا في كثير من المناطق، ومناجم تحتاج إلى إنفاق رأسمالي أكبر للحفاظ على نفس مستويات الإنتاج. لكن المناجم ليست وحدها، هناك عنصر لا يقل أهمية وهو الذهب المعاد تدويره، حين ترتفع الأسعار، يزداد بيع المشغولات القديمة والسبائك الصغيرة، فتزداد الكميات التي تعود إلى السوق في صورة «خردة» معاد صهرها. هذا المعروض الإضافي قد يهدئ السوق مؤقتًا، لكنه غالبًا لا يغير الاتجاه عندما يكون الطلب الاستثماري والرسمي قويًا، وفي المقابل، عندما تتراجع الأسعار أو يهدأ الصعود، يقل التدوير لأن الناس ترفض البيع عند مستويات ترى أنها أقل من القيمة العادلة، هكذا يتحرك التدوير كعازل للصدمات، لكنه ليس محركًا رئيسيًا للاتجاه.وعند الانتقال إلى الطلب، تظهر الحقيقة الأكثر تأثيرًا: من يشتري الذهب ولماذا؟ هنا ينقسم السوق إلى أربع مدارس، كل مدرسة لها منطق مختلف، المدرسة الأولى هي البنوك المركزية، هذه ليست مشتريات رفاهية ولا مضاربة، إنها قرارات سيادية لإعادة ترتيب الاحتياطيات، وتخفيف الاعتماد على أصول قد تصبح أكثر عرضة للمخاطر في عالم شديد الاستقطاب، وحين تشتري البنوك المركزية، فهي تشتري ببطء وثبات وبأفق زمني طويل، وتضع الذهب في خزائن لا تخرج منه بسرعة، هذه المشتريات تسحب كميات من التداول الحر، وتخلق أرضية سعرية صلبة، وتجعل أي تصحيح أقل عمقًا مما كان عليه في دورات سابقة.المدرسة الثانية هي المستثمرون والمؤسسات والصناديق، هؤلاء هم المحرك السريع، دخولهم يجعل السعر يقفز، وخروجهم يجعل التصحيح حادًا، ولأن كثيرًا من قراراتهم ترتبط بالتوقعات لا بالواقع، فإن السوق قد يتفاعل مع إشارات صغيرة، كتصريح عن الفائدة، أو بيان اقتصادي، أو خبر سياسي، فيصعد أو يهبط بسرعة، وهذه النقطة مهمة للقارئ، الذهب قد يصعد لأسباب قوية، لكنه قد يتراجع أيضًا بسبب تغير المزاج الاستثماري، حتى لو كانت الأسباب الهيكلية للصعود ما زالت قائمة.المدرسة الثالثة هي سوق المجوهرات، هذا الطلب مرتبط بالثقافة والدخل والقدرة الشرائية، عندما ترتفع الأسعار بشدة، يتراجع الشراء أو يتحول إلى أوزان أقل وعيارات أقل، أو يتأجل القرار، وعندما تهدأ الأسعار، يعود الطلب، لذلك، المجوهرات تميل إلى مقاومة القمم أكثر من دفعها، لكنها تظل ضلعًا مهمًا لأنها تمثل جزءًا كبيرًا من الاستخدام النهائي للذهب عالميًا.المدرسة الرابعة هي الاستخدام الصناعي والتكنولوجي، صحيح أن هذا الجزء أصغر مقارنة بالمجوهرات والاستثمار، لكنه يضيف للذهب بعدًا عمليًا، خصوصًا في الإلكترونيات الدقيقة وبعض التطبيقات المتقدمة، ويصبح أكثر أهمية في السرديات الاقتصادية عندما يتحدث العالم عن التكنولوجيا وسلاسل الإمداد والمواد الحيوية.وبين هذه المدارس الأربع، تتحرك الأسعار في ضوء عوامل اقتصادية كبرى، أبرزها أسعار الفائدة وقوة الدولار والسيولة العالمية، عندما ترتفع الفائدة الحقيقية، تصبح أدوات العائد أكثر جاذبية، ويشعر بعض المستثمرين أن الذهب تكلفة فرصة لأنه لا يمنح عائدًا دوريًا، أما عندما تتراجع الفائدة أو تزداد توقعات الخفض، يعود الذهب إلى الواجهة كبديل تحوطي قوي. كما أن الدولار عامل مفصلي، لأن تسعير الذهب عالميًا يجعل أي قوة أو ضعف في الدولار ينعكس مباشرة على شهية الشراء، خاصة لدى المستثمرين خارج الولايات المتحدة.ثم تأتي الجيوسياسة، وهي نبضًا ثابتًا في سوق الذهب، صراعات ممتدة، توترات في مناطق إنتاج الطاقة والممرات البحرية، سباق نفوذ اقتصادي، وعقوبات وقيود مالية، وتنافس تكنولوجي عالمي، كل ذلك يجعل الذهب أشبه بتأمين ضد عالم غير قابل للتوقع، وفي أوقات القلق، لا يسأل المستثمر فقط عن العائد، بل يسأل عن الأمان، وهنا يلمع الذهب لأنه يحتفظ بقيمته في المخيلة الجماعية قبل أن يحتفظ بها في الشاشات.لكن وسط كل هذا التعقيد، يبقى السؤال الذي يهم القارئ: ماذا أفعل قبل الشراء؟ الإجابة تبدأ من هدفك، لا من السعر، إذا كنت تشتري للادخار طويل الأجل، فأنت لا تحتاج أن تصيب القاع المثالي، بل تحتاج خطة تقلل المخاطر وتوزع الدخول على الوقت. أما إذا كنت تشتري للاستثمار القصير، فأنت تدخل منطقة حساسة تحتاج خبرة وإدارة مخاطر صارمة لأن أي تصحيح يمكن أن يكون سريعًا ومفاجئًا.أول نصيحة عملية: لا تشتري بكل السيولة دفعة واحدة، تقسيم الشراء إلى دفعات يقلل خطر الدخول عند قمة، ويمنحك متوسط تكلفة أكثر عدلًا. ثاني نصيحة: افهم تكلفة الدخول والخروج في السوق المحلي، الذهب ليس شاشة سعر فقط، هناك مصنعية وهوامش وتكاليف واسترداد قد يحول الربح الورقي إلى خسارة فعلية عند البيع. ثالث نصيحة: فرق بين ذهب الادخار وذهب الاستخدام، من يشتري مشغولات للزينة عليه أن يدرك أن جزءًا معتبرًا من التكلفة لا يعود عند البيع، بينما السبائك والجنيهات عادةً أقرب لمنطق الادخار والاستثمار.رابع نصيحة: لا تطارد القمم، الشراء تحت ضغط «السعر بيطلع» غالبًا يقود إلى قرار متأخر. خامس نصيحة: لا تقترض لشراء الذهب، الدّين يجعلك تبيع في توقيت خاطئ لأن الالتزام لا ينتظر السوق.سادس نصيحة: حدد من البداية سيناريو الخروج، هل ستبيع عند هدف سعري؟ أم عند احتياج؟ أم ستحتفظ لسنوات؟ عدم وجود خطة خروج يجعل القرار رهينة الانفعال.والأهم من كل ذلك: ضع الذهب في مكانه الصحيح داخل محفظتك، الذهب أداة تنويع وتحوط، وليس بديلًا لكل شيء، من يضع كل أمواله في الذهب يحمل نفسه تقلبات سوق واحد، ومن يرفض الذهب بالكامل قد يفقد عنصر حماية في أوقات الاضطراب. الاعتدال هو عنوان الحكمة في إدارة المال.

وزير البترول يغادر إلى لندن حاملًا ملف تطوير الثروة المعدنية في مصر

وزير البترول: مصر تدخل عصر التعدين العالمي بخريطة استثمارية جديدة (خاص)
في النهاية، قبل أن تشتري الذهب، لا تسأل فقط: «أشتري ولا لأ»؟، اسأل: «أشتري ليه؟ وبكام؟ وإمتى؟ وبأي خطة؟»، حينها فقط يصبح الذهب حماية لا مخاطرة.