ثقافة, جريدة الدستور 31 ديسمبر، 2025

تحث الدكتور محمد المخزنجي عن علاقة الطب والأدب  في حياته، قائلًا: «الأدباء ومهنة الطب» ثنائية دائمًا ما كانت ولا تزال موضع دهشة وتساؤل، ولعل هذا ناتج عن طبيعة المهنة نفسها، والتي يقول فيها المثل المتردد بكثير من لغات العالم، «إنها المهنة التي لا تسمح بأن ينازعها عند صاحبها اهتمام آخر»، وهذا صحيح إلى حد بعيد بحكم واجبات هذه المهنة، في ليل أو نهار، في عطلة أو عمل. وأضاف في تصريح خاص لـ”الدستور”: “وهنا عندي حكاية، فقد حدث بعد أن صدر كتابي الأول «الآتي» أن أثني عليه كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ بسطور في تصريح نادر بمجلة عالم الكتاب، دون أن أكون من حوارييه ولا حتى أهديته الكتاب، كان هذا حدثًا نادرًا من نجيب محفوظ الحذر والمتحفظ، يجعل مئات الوجوه، تتلفت باحثة عن هذا الكتاب الصغير بقصصه بالغة الإيجاز وعمن يكون كاتبه الذي لم يكن متاحًا في الوسط الأدبي بالقاهرة، إذ هو طبيب شاب يعيش ويعمل في المنصورة. ويكمل: “عندها سافرت لأذهب إلى الأهرام وأشكره على هذه الهدية النفيسة، كنت أتصور أنني سألقاه في مكتبه في الجريدة أشكره وأمكث بضع دقائق وأمضي، لكن الدقائق امتدت أكثر من ساعة ونصف الساعة، رحب بي بمودة غامرة وظل يسألني أسئلة عديدة، ومنها ماذا أفعل في معضلة الجمع بين الطب والأدب؟”.ويواصل: “أجبته بالعامية الشعبية بأنني كالمتزوج من اثنتين، إذا ذهب إلى الأولى تغضب الثانية، وإذا ذهب إلى الثانية تغضب الأولى! وهنا انطلقت ضحكته المجلجلة، وبعدها قال لي: لم يستطع أن يجمع بين الاثنتين غير الدكتور محمد كامل حسين، والدكتور أحمد زكي أبوشادي. يكمل الدكتور محمد المخزنجي:” وهذا يجعلني الآن تواقًا لرد غيبة الغائبين، فهم أولى بالتذكر والتفكر، بالطبع يبرز هنا اسم العظيم يوسف إدريس كطبيب أديب، لكن يكفيني ويكفيه ويرد غيبته ذلك المقال العميق الشجاع الجميل في العدد المائة من «حرف» للكاتبة النادرة والحقيقية والكبيرة في العمق، الأستاذة صافيناز كاظم في مقالها عن يوسف إدريس ورؤيتها الثاقبة والمنيرة لروايته سابقة عصرها «البيضاء»، ولعلي أضم أليها ــ بتواضعٍ واجب ـ  مقدمتي المتواضعة «البحث عن عرق الذهب» في طبعة مؤسسة هنداوي لثلاث من قصصه المنسية تحت عنوان «المارد».يواصل: “أما ما يلح عليَّ الآن بشأن ثنائية الطب والأدب، ويتصل برأي نجيب محفوظ الذي أبداه لي منذ أكثر من أربعين سنة، فهو عن ثلاثة أطباء نجحوا في الجمع بين ثنائية الطب والأدب، وباقتدار نادر”.أولهما: “الدكتور أحمد زكي أبوشادي مؤسس مجلة «أبولو» لا بوصفها تيارًا شعريًا تجديديًا فتح لكل من بعده وحتى الآن أفقًا أرحب، ليس في لغة الشعر فقط، بل في لغة الأدب بعامة”. فقد كانت رؤاه ليست فقط مشروع تحرر جمالي روحي من البلاغة المتحجرة. بل تحرر من جمود أفق التعبير الأدبي. أما الطريف والمذهل الذي عثرت عليه وأنا أتتبع أثره، فهو ريادته الطبية في علم «الميكروبيولوجي» أو «الجراثيم»  ليس كأستاذ طب مصري فقط، بل كأستاذ طب عالمي، إذ عمل بتخصصه الذي كان نادرًا وأساسيًا في البحث عن الميكروبات التي تنازع الإنسان حياته، فشغل منصب أستاذ في جامعة أمريكية بعدما هاجر من مصر، وإن لم ينقطع عنها.  ولعل أدهش المدهشات في هذا العملاق المصري فهي ولعه وخبراته الهائلة بتربية نحل العسل التي بوأته رئاسة مجمع النحالين في العالم!

أدباء في المعطف الأبيض.. نجيب محفوظ سأل والمخزنجي أجاب: هل يمكن للطبيب أن يكون أديبًا كبيرًا؟

محمد المخزنجي عن فؤاد حجازي: رجل نادر الرقة والتعفف والصلابة

ويستطرد: “أما الثاني، فهو الدكتور محمد كامل حسين، أستاذ جراحة العظام، وصاحب الرواية الحدث والتي يمكن قراءتها الآن كعمل عملاق في بنائه ومراميه الإنسانية والكونية «قرية ظالمة» التي لم تكن مجرد وقفة أمام التباسات لحظة دينية، بل أخذًا للبشرية ووضعها على طاولة الفحص الأخلاقية والروحية لتحديد موضع الألم الذي يشير إلى منطلق العطب في السلوك الجمعي البشري”. باختصار: كانت هذه رواية عملاقة لكاتب عملاق أدب وعملاق طب في تخصصه، فلا تزال له في تخصصه مبادرات عالمية تذكرها المراجع وتاريخ التخصص.ويتابع: “وأخيرًا، ثالث هذين العملاقين، وأندفع باطمئنان تام إلى وصفه بأنه «أديب عملاق» ابن أيامنا، نجح في الجمع بين الأدب الراقي والطب رفيع المقام. إنه الدكتور أسامة عبدالرءوف الشاذلي، أستاذ جراحة العظام بطب عين شمس، وخبير دولي في جراحات القدم والكاحل، ومرجع دولي أيضًا في تاريخ الطب.  إنه مبدع «أوراق شمعون المصري» روايته الأشهر وواحدة من أطول الروايات العربية الحديثة، وأرقاها بناء ولغة ومشهدية وتنقيب عميق في منعطف ديني تاريخي جغرافي وأخلاقي لا تزال متاهاته المستحدثة تضرب في جنوبنا وجنوب الحقيقة، عن «شمعون بن زكريا»، شاب من بني إسرائيل من أب يهودي وأم مصرية، يروي فيها أحداث الخروج من مصر بقراءة تعيد ترميم التشوهات العمدية للذاكرة، وبمنظور إنساني عميق يتجاوز السرد المكرر لتاريخ الشعوب. عمل هائل. أتبعه بعمل روائي هائل آخر وإن في مساحة أقل وهو «عهد دميانة» حيث يدور السرد التاريخي في بلاط الدولة الفاطمية، فيستحضر تاريخ صراعات السلطة، ومشاهد التعددية الثقافية والدينية في مصر حينها، فكأنه يستنطق لواعج الحاضر بصوت الماضي. 

زيارة مصدر الخبر